وثنية التفكير
حاولت مرارا وتكرارا ان امنع نفسي من الكتابة في هذا الموضوع حتى لا يساء فهم ما سأقوله وحتى لااقول كلاما قد يدفع البعض للاعتقاد الخاطئ في بعض الامور. واولا وقبل ان اخوض في الموضوع ادعو كل من لم يلم بقدر من التفكير المنطقي والاستدلال ان يقف ولا يقرأ هذا الكلام لانه قد يصعب عليه فهمه ويستنتج اشياء لم اقصد قولها. والله الموفق.
من البداية احب ان اشرح قولة وثنية وهي عنوان الرسالة . والمقصود من الوثنية هنا هو التسليم المطلق بفكرة او مبدأ والتمسك به وعدم زحزحة هذه الفكرة من العقل برغم تغير الظروف والازمان والاسس التي قامت عليها هذه الفكرة تماما مثل الاعتقاد الخاطئ بالالهه قديما والتصديق المطلق لها لدرجة عبوديتها. فنحن احيانا قد نكون مقتنعين بفكرة خاطئة ونسلم لها انفسنا تسليما اعمى. او نكون منساقين لرأي بدون النظر فيه ومحاولة تنقيته او تنقيحه من ترسبات الزمان والاراء. لذلك احببت توضيح معنى الوثنية هنا حتى لا ادان بما ليس في او احاسب بما لم اقصده.
والذي دفعني دفعا لكتابة الرساله هذه هو بعض الافكار- واكرر بعض الافكار وليس المعتقدات- التي تأتي احيانا من هنا او من هناك وتحمل بعض الافكار الموروثة التي يجب ان تصقل الان ويزال من عليها اتربة الدهور والازمان. لذلك اردت ان احمل فرشاة التلميع لدي لكي اظهرها وابين ما المقصود من هذه الفكرة وتلك . وانني والعهدة علي احاول جاهدا الاستنباط والاستدلال من منظور عقلي يوافق الحكمة المقصودة من بعض الاحكام والافكار. ولن اطيل في هذه الديباجة عسى اكون قد أوضحت الامر الذي انا مقبل عليه. وادعو الله ان يوفقني وان يرشدني طريق الصواب.
في احدى المرات سألت نفسي سؤالا وهو الاتي..
هل يجب على كل مخترع لفكرة او قانون او معادلة رياضية ان يكون ملم بكافة العلم المتصل بهذه الفكرة او تلك؟ الاجابة طبعا هي النفي لان هناك امثلة كثيرة لنماذج بعض الاشخاص الذين توصلوا بمجرد تفكيرهم الى استنباط وبناء اختراعات لم يأت بها من هم اعلم منه واقدر. لان العقل الذي خلقه الله قادر على التفكير البحت الذي بدوره يستطيع التوصل الى افكار لم يسبقه احد فيها من العالمين. اذا لايشترط ابدا ان يكون الشخص ملم بكافة علوم الفزياء مثلا لكي يستنتج قانون جديد او اختراع مذهل.
وكمثال على ذلك ناخذ مثلا اينشتين الذي توصل الى كل افكاره عن النسبية بمجرد الجلوس والتبحر بخياله في ارجاء الكون ولم يستخدم ابدا المسائل والمعادلات الا لكي يثبت صحة كلامه وقد ساعده على ذلك بعض العلماء لانه لم يكن ملم بكل علوم الرياضيات. وبداية من هذه النقطة احب ان اقول انه كان ياتيه الهام بفكرة يصدقها عقله ويطابقها تفكيره المنطقي حتى ولولم يسلم بها الاخرون وينكروها عليه الى ان يأتي الوقت الذي يسلم فيه الجميع بصحة رأيه او نظريته. اذا دراسة اي علم والتبحر فيه لايعني بالضرورة ان يكون هذا الشخص قادر على استنباط افكار واراء جديدة بمجرد انه دارس لهذا العلم لاننا جميعا قادرون على فعل ذلك مهما كان قدر عقولنا. فاننا نستطيع مثلا ان نعلم ابنائنا علوم الدين مثلا ولكننا لايجب ان ننتظرمنهم ابدا ان يكونوا علماء قادرون على التفكير. فشتان بين العقل والالهام معا.
فكل منا له عقله وقد نتساوى لكن الذي يفصل بيننا هو قدرة عقلي على الغوص في مكنونات هذا العلم واستنتاج الحكمة النابعة منه. ومن هنا يأتي دور الله في انزال علمه المخفي على عباده. فكثيرون من تعلموا ظاهر العلم بالدراسة ولم يخبرهم الله بجديد وقليلون هم من اتوا بجديد عن طريق اخبار الله لهم وهو المقصود هنا من الاية الكريمة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) سورة الاسراء.
فقليل العلم الذي ينزله الله على بعض عباده هو العلم الذي يأتي عن طريق الالهام او بمعنى ادق عن طريق الوحي. ولا اعني ابدا وحي الملائكة لان الرسل فقط هم المعنيون بذلك الوحي ولكن الذي اقصده هو وحي الالهام والامثلة على ذلك كثيرة ولكنى سأورد بعضها.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) سورة القصص.
في هذه الاية اوحى الله الى ام موسى وهي لم تكن من الانبياء ولم يخبرنا الله بذلك ولكن الله اوحى لها عن طريق الالهام الذي يأتي لكثيريين امثالنا. فان الله قد يلهمك لفكرة او رأي وانت تعلم تماما ان هذه الفكرة لم تخطر لك على بال وهذا هو الوحي الذي اقصده وهو اخبار الله لبعض عباده لبعض العلم القليل الذي ينزله الله. فان علم الله المنزل بطريق الالهام لن ينقطع الا بقيام الساعة. وهذا هو العلم المخصوص ولذلك فان الذين يملكون قدرا من هذا الالهام هم وحدهم القادرون على استكشاف الحكمة المكنونة الموجودة في بعض اشكال الحياة والتي يكشفها الله لهم عن طريق وحي الالهام.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117 سورة الاعراف.
في هذه الاية الكريمة اوحى الله الى موسى وحي الالهام لان الله قد امره من قبل ان يلقي عصاه عندما يقابل فرعون ولكن موسى قد وجل عندما رأى الحيات التي القاها السحرة فاوحى الله وحي الالهام بان ادخل الامر الى عقله مباشرة ان لاتخف والقي العصا التي معك.
ومن نافلة القول باننا جميعا وبدون شك نسلم بان الله ينزل العلم على من يشاء من عباده. فكيف ينزل الله العلم على عباده اذا لم يكن عن طريق الالهام؟؟؟؟ وكيف يتوصل الانسان الان الى كل هذا العلم اليوم وليس بيننا نبي او رسول؟؟؟؟؟؟
وكما اخبر الله موسى بان بالارض من هو اعلم منه وهو النبي المرسل –في قصة الخضر- فقد اخبرنا الله بالتالي بان العلم الالهي لا يشترط ابدا ان ياتي من نبي ولا رسول وكما ان علم الله لاحدود له فقد خص تنزيل درجات العلم على من يشاء من عباده. وكلما ارتفعت درجات العلم الالهي المنزل عن طريق الالهام كلما ارتفعت قربة العباد من درجات العلم الغيبي . لذلك فان الله لم يعطي احدا من العالمين هذا العلم الا القلائل. ولنعود الى قصة الخضر لنرى فيها ان الله قد خص الخضر بعلم قد قارب العلم الغيبي وهو ذلك العلم الذي حرمه على عباده. فقد علم الخضر بان الولد الذي قتله انه سيكبر ويصير فاجرا . وعلم ايضا بقصة السفينة. فهذا علم غيبي لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل وحده مهما كانت قدرته
وقد نقول بان هذه معجزة من معجزات الله اراد الله بها ايقاف قدرة العقل امام قدرة الله لكي نسلم به ونؤمن فاننا ايضا يجب ان نسلم باننا لن نستطيع الصبر على انسان لديه قدر من هذا الالهام الالهي لانه سيأتي بالتاكيد بافكار قد تعجز عقول الاخرين وبالتالي لن يصبروا عليه تماما كما اخبر الخضر سيدنا موسى بانه لن يستطيع معه صبرا.
وعندما نقف امام هذه الاية الكريمة فان موسى لم يتعلم من الخضر في هذه القصة الا الصبر لان هذا العلم المنزل على الخضر لم ينتقل الى موسى لانه علم من عند الله وبالتالي فاذا اراد موسى تعلمه عليه ان يدعوا الله بان ينزل عليه هذا العلم. فالعلم الالهى المنزل ليس معادلات يمكن تعلمها ولكنها علم الحكمة يودعها في عقول من يشاء من عباده ولا يمكن نقلها بالتبعية لان الجميع لن يعوها ولم يملكوا مفاتحها.
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) سورة يوسف
في هذه الاية الكريمة توضيحا اكثر واكثر لعلم الله المنزل وحكمته فان هذا العلم لايمكن كتابته ولايمكن تعلمه في مدرسة او جامعة ولكنه علم ووحي من الله عن طريق الالهام له درجات يخص بها من يشاء من عباده. وهو علم يزيد من قوة بصيرة الانسان ويجعله يرى الحكمة المقصودة من بعض ايات الله.
وعلى ذلك لايشترط ان ناخذ الحكمة من رجل متعلم عالي المكانة ولكننا قد نجدها في شخص اقل منه علم ولكن عنده بصيرة اودعها الله اياهه.
فطوبى لمن ملك قدر من علم الالهام فقد ملك خيرا لا يعرف له مقام
فسبحان الذي ابدعه وانزله وصوره في عقول بعض الانام.
لذلك فالعلم الذي اتعلمه من هنا او من هناك عن طريق النقل والدراسة هو متاح للجميع. فهو مكتوب في الكتب ولكن العلم الالهي المنزل لايتاح للجميع فهو مخصوص لأناس بعينها هم وحدهم الذين لديهم الحكمة والالهام.
لذلك قال الله سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) سورة فاطر
وهذا هو المقصود من الاية الكريمة فالعلماء في هذه الاية ليسوا العلماء الذين تعلموا ظاهر العلم بالدراسة ولكنهم المخصوصون بعلم الله الالهي. وانصح هؤلاء القوم الذين تعلموا ظاهر العلم بالدراسة بان لايستطيلوا في البنيان ولا يعتقدوا بان هذه الاية تخصهم وحدهم فقد يكون بينهم من خصه الله بالعلم الالهي وقد لايكون. ولكل كل له اجره ومقامه.
واكتفي هنا من السرد والتحليل فاني اعتقد اني اوضحت الامر الذي انتويته.
لننتقل الان الى نماذج وثنية التفكير والتي تتعلق بافكار السابقين واللاحقين وهي اعتقادهم الخاطئ ببعض الافكار نتيجة اما عدم اعمال العقل فيها او قصور التصور والالهام لبعض من هم مدعوا العلم.
من امثلة وثنية التفكير قد ترى بعض الناس من يتمسك بالسواك ويقول عنها انها سنة. هؤلاء لم يفهموا مقصد السنة الحقيقي هنا وهو شرط نظافة الاسنان. ان الرسول لم يقصد ابدا ان نتمسك بالسواك الى الابد ولكنه قصد نظافة الاسنان وعلى ذلك فاستخدام فرشاة الاسنان هي الواجبة لان المسلمون الاوائل لم يكن عندهم الا السواك ولم يكتشفوا غيره. ولكنهم كانوا مطالبين بنظافة الاسنان. اما اليوم فالوضع مختلف وفرشاة الاسنان هي الاصح والانظف.
وعندما نقول بان الرسول محمد(ص) نهى كل من اكل ثوم او بصل من دخول المسجد لم يقصد ابدا ان الثوم والبصل فقط هم اسباب المنع من دخول المسجد ولكنه قصد سوء الرائحة. اي ان كل مسلم يدخل المسجد يجب ان تكون رائحته زكية لان الناس والملائكة تتأذى هذا هو المقصود. ويستتبع ذلك ان لايدخل المسجد كل من له رائحة عرق كريهة. او يلبس شراب رائحته مؤذية هذا هو المقصد وهذه هي الحكمة.
وبناء عليه اكون قد أوضحت ما انا اقصده واريده
ويكفينا هذا القدر من الرسالة عسى ان اكون قد وفقت لمقصدي والله على ما اقول شهيد.
تعليقات
إرسال تعليق