الفوضوية ومبدأ التسليم
في احدى المرات التي كنت اشاهد فيها مباراة كرة قدم بين منتخب مصر واحدى المنتخبات الاجنبية، لفت نظري ان الجالسين حولي يشاهدون المباراة ويضعون ايديهم على قلوبهم خوفا من دخول هدف في مرمانا. فتركت مشاهدة المباراة ورحت اطوف بين وجوه القوم علني اجد سببا لهذه الحالة الغريبة. هذه الحالة التي جعلتنا متوقعين الهزيمة أقرب منها الى النصر. وبرغم من ان الرياضة بها غالب ومغلوب ولا نعرف من سيكون الغالب ، لكن اجواء الرعب والقلق جعلت الجميع يستشعر الهزيمة حتى ولو لم نتيقن من النتيجة بعد. وكدت اجزم ساعتها انهم من فرط خوفهم ووجلهم كادوا يتبولون على انفسهم. فسألت نفسي ، ما الذي دفع هؤلاء القوم الى مثل هذه الحالة المزرية؟ وبعد مشاهدة العديد من المواقف التي لا تختلف كثيرا عن هذه الموقف، ادركت ان الشك قد علا الهمم والجباه حتى يكاد المرء يشك في اخيه وابيه. والذي دفعنا الى هذا ، اننا لا نرى الا خيبة الامل في افعالنا. فكل عمل نقدم عليه لا يحقق النجاح مطلقا. ومع تكرار الفشل يتملكنا الشك في كل ما نفعله حتى ولو كان ذا مغزى وفائدة. واذا كان سر نجاح اي عمل هو الايمان بما نفعله، فان هذا الايمان – اذا كان موجود اساسا – تحول بداخلنا الى مجرد مبدأ التسليم فقط. وهناك فرق شاسع بين الايمان بشئ والتسليم به.
فالايمان
سواء كان بعقيدة او عمل يجعلك تقبل عليه بكل همة واقدام بدون ادنى تردد منك. حتى
انك تبحث ليس فقط في كيفية انجازه ولكن تدقق في كيفية اتقانه. اما مجرد التسليم
بذات العمل اذا اوكل اليك يدفعك الى الوقوف مرارا وتكرارا للسؤال والتربص بما
تفعله وهل يجدي نفعا ام لا. فيأخذ منك وقتا كثيرا نتيجة شكك فيه وبالتالي فلا مجال
لاتقان ما لا تؤمن به من الاساس. واذا اردنا ضرب الامثال لما نقول ، فما عليك الا
النظر في افعال الناس اليومية عند اشارات المرور والهروب من المسؤولية ومحاولة
تجنب المخالفات. فالقانون هنا هو الذي يجبرك على الفعل وهو الذي يحدد لك المسار.
فاذا غاب القانون تلاشت بداخلك كل المعوقات التي تمنعك من ان تفعل المحظور. هذا
القياس انما يحدث عندنا فقط بسبب ان التسليم بمبدأ فعل الصواب لا يرقى في اي مرحلة
من المراحل الى الايمان بفعله. فالغرب العلماني يفعل ذلك من تلقاء نفسه لايمانه
انه لا يحتاج الى رقيب لكي يقوم او يصحح له خطواته. فاختلفت النظرة بيننا وبينهم.
نحن نسلم فقط بصحتها وهم يؤمنون بها. اذا فالايمان بفكرة ما، هو قبول وخضوع شخصي
بدون اي مؤثر خارجي انما التسليم خضوع ايضا ولكنه موقوف على مؤثر خارجي فان غاب
المؤثر انتهى التسليم.
والذي يدفعنا الى التاكيد على ان المجتمع يتخذ
مبدأ التسليم في افعاله وحياته دون الايمان ، هو بذرة الشك المولدة لفكرة الرفض
فيه.فالشك سمة غالبة في المجتمع تراها كل عين بصيرة. وعلى الرغم من ان الشك لا
يعتبر نقيصة الا اذا اتخذناه من زاوية الشك الهدام او الشك المعكوس، بمعنى الشك
المتولد من ثقافة الهزيمة. الشك الذي يدمر المجتمع ولا يبنيه.فأي عمل يقدم عليه
مجتمع التسليم يلتصق به الشك من بداياته. نشك في ركلة البداية ونشك في الهجمة ونشكك
في قدرات الحارس ونشكك في امكانيات المدرب ويصبح في النهاية الفوز – اذا حدث
مصادفة – ضرب من الجنون لاننا لم نكن نتوقعه او نتخيله. ولم نفطن ابدا الى ان
الفوز هو غاية يمكن لها التحقق اذا زالت بذور الشك الهدام منذ البداية. فالشك سلاح
ذو حدين ، اما ان تستخدمه للتحفيز واما ان تستخدمه للتقليل من قدرات الجميع. واذا
طلب احدهم ان آتيه بحجة على ما اقول ، فلنا ان نقيم مكاتب للمراهنات وسنجد ان نسبة
من سيراهنون على خسارتنا قد تبلغ اضعاف من يراهنون على فوزنا !!
وكل ذلك
يعتبر عنوان ويافطة كبيرة مضاءة لليأس المولد للتدمير بسبب ان النجاح اصبح عملة
مفقودة وليست نادرة. عملة غرقت على مر السنين في غيابت الجب وليس لدينا السبيل الى
اخراجها. فتظهر سمات الياس على الوجوه وترتفع معاول الهدم في الايادي. اعتقادا منا
ان البناء لن يعلو الا على انقاض الحاضر. وان السبيل الى النجاح لن يتأتى الا بعد
طمس كل ما أذاقنا الذل والهوان وتناسينا ان الذل والهوان عبارة عن مكتسبات شخصية
وليست ادوات قمعية فرضت علينا فرضا. فاذا سرنا على هذه الحالة دربا طويلا وجدنا ان
السخرية وعدم الثقة سمتان مترادفتان لكل طموح جديد. بمعنى انه اذا قام احدهم واقدم
على بناء جديد او حتى محاولة لبذل مجهود جهيد وجدنا من يحاولون تلويث سمعته او
يسعون لتدمير وجهته – بمعنى تكسير المجاديف . وتكون السخرية محل انتشار وثقافة بين
الافراد الى الدرجة التي يتحول فيها الجميع الى مهرجون. ولن تجد على مستوى الدنيا
قاطبة اناس يطلقون القابا على بعضهم كما نفعل نحن. فاسماء الشهرة والالقاب سوق
مفتوح به عجب العجاب. فهذا الافندي وذاك البيه ( وهذه المزة ) وهؤلاء الفلول. فاذا
نزلنا الى مستوى القاعدة من الناس سنجد من يسبق اسمه بكلمة الجحش او النتن او
الحمار او البغل. فاذا نزلنا اكثر فاكثر الى مستوى المشردين والحثالة لظهر لك من
الاسماء ما اضحكك مر السنين. وفي اخر الامر تصبح السخرية هي الفضلى بين صفات كثيرة
ويتجلى مفهومها في الافلام والعلاقات الانسانية والحديث بين الاصدقاء. واذا كنت
ممن لا يتقبلون بها واردت ان ترفض هذه الصور جميعا لوجب عليك التقوقع والانعزال
داخل نفسك قبل ان تتقوقع داخل مجتمعك. اما اذا رحبت بها واستخدمتها ، لوجب عليك ان
تكون متميزا فيها حتى ترقى الى درجة الحشاشين والسوقة والدهماء وتصبح كبيرهم الذي
علمهم السحر فتنال احدى الحسنيين ، اما المال او الشهرة.
ولكن ، ما
ضريبة كل هذا؟ سؤال يجب ان نتوقف عنده ونمعن النظر فيه ونحاول ان نجاوب عليه اجابة
وافية لان الحياة بهذه الصورة تصبح عبثية وتتحول بالتالي الى النيهيلية المدمرة.
بمعنى ان الانسان اذا فكر وجلس ثم فكر، لن يجد حلا للخروج من هذا المأزق ان كان به
بقايا عقل سليم الا الانتحار. لانه استشعر فوضوية الحياة وعبث الوجود. فهو لا يجد
الا انسان مضمحل لا يستطيع ان يفعل اي شئ لحياته ومستقبله وبالتالي فليس له اي
لازمة لوجوده الذي تساوى مع عدمه. واحيانا ينخفض هذا القياس ليقارن الانسان نفسه
بالحيوان. فاذا رجحت كفة الحيوان انهار الانسان داخليا ولم يجد بدا من الهروب
والاختباء او تاتي اليه فكرة الانتحار في اجلى صورها. وحين يقدم هذا الانسان على
الانتحار نجده يهاب الموت ويخاف المجهول ويستحضر بعض المسكنات المعنوية من هنا ومن
هناك. فيلجأ في النهاية الى التعلق بالله ليس نشدانا للتقوى او التقرب منه ولكن
لكي يساعده الله في محنته. يستحضر الاله لكي يقتل له الاعداء ويختم له على ورقة
النجاح ويساعده في بلوغ الجبال ويسير له السفن ويحرز له هدفا في مرمى الخصم – الم
تسمع دعاء المكلومين في مباريات كرة القدم !! – وكأن الله هو المارد الموجود في
القمقم يخرج لنا حين نطلبه ويقدم لنا الاماني السبعة التي ستجعلنا خير امة اخرجت
للناس. ويتجلى الله في الاذهان ونستحضره من علياء السماء الى اطراف الارض لكي يحقق
لنا كل ما استعصى علينا – ويا ليت كل ما استعصى كان عصيا !!.
وبعد ان
تترسخ هذه الفكرة في الادمغة يتحول الله تدريجيا بديلا عن الانسان. فيتحول الانسان
الى مشلول قعيد لا يملك من امره شيئا. ويصبح الدعاء – الذي لا يتحقق ابدا – هو
السلاح الذي نوجهه اينما شئنا. مرة في وجه قنبلة نووية وتارة في وجه زميل في العمل
واخرى في مباراة كرة قدم وهكذا دواليك. وتتشوه الصورة الحقيقة للاله في الاذهان ،
وبدل ان يكون هو الله الذي يأمرنا بالتحرك والنظر والفكر والعمل يصبح هو الاله
القادر على كل شئ . اعظم افعاله قتل احفاد القردة والخنازير وابسطها صنع طاجن
بامية في الفرن !!!
ما أبأسك
ايها الانسان العربي....
تعليقات
إرسال تعليق