ميرامار ( قصة قصيرة )
بعد أسبوع
عمل شاق ، وصلت ميرامار الى المحطة تنتظر الحافلة التي سوف تأخذها الى بيتها. كانت
الساعة في المحطة تشير الى الثانية بعد الظهر. دخلت الى المحطة وجلست على اول كرسي
وجدته ووضعت شنطتها على حجرها واعتدلت في جلستها حتى تريح ظهرها المجهد من كثرة الوقوف.
سرحت ببصرها الى العابرين تتطلع الى وجوه الناس المارة امامها. لم تعبأ كثيرا بما
تشاهده فهي لم تعد تشغل بالها بقسمات الوجوه. كان منزلها يبعد مسافة كبيرة عن
عملها لذلك استحسنت ان تؤجر منزلا مشتركا مع احدى زميلاتها في العمل لكي توفر عناء
السفر الى بيتها يوميا. كانت المحطة تعج بالمسافرين يوم الخميس، واصوات الباعة
الجائلين تعلو وتنخفض. لم تعد تشتري الصحف كما كانت تفعل في الماضي، لذلك كانت
تسليتها الوحيدة هي ان تدير اصبعها على شاشة تليفونها لتتفحص الايميلات ورسائل
الغزل التي تاتيها بين الحين والاخر من المحبين والمغرمين وعاشقي الكلام وأصحاب
الالف وجه. مشاعرها باتت باردة بعد ان كانت دافئة واحاسيسها اصبحت صلبة من ترهات
الزمان. لم تلحظ ان الساعة اقتربت من الثالثة ولم تأت الحافلة بعد. وبدأ الضجر
يتسرب الى نفسها ولكنها اعتادت على هذه الامور وخبت بداخلها النفور. في هذه
الاثناء مر امامها طفل صغير يبكي ووالدته تنهره بكل شدة ، فلم تتمالك نفسها ووقفت
محاولة ان تنبه الام ان تتعامل بلطف مع صغيرها ولكنها تراجعت عن فعلها لعلمها بان
الحنان لا يشترى ولا يباع. فجلست على مقعدها ووضعت التليفون في شنطتها ونظرت في
الساعة فوجدتها قد تجاوزت الثالثة والنصف. بدأ الشك يتخلل جوانحها ولم تعد تستطيع
ان تاخذ قرار. اتبقى في انتظار المجهول ام تسير على قدميها علها تدرك المقدور.
وخلال هذه اللحظات دويت صافرة الاعلان في المحطة معلنة اقتراب الحافلة المتجهة الى
بلدها. ففرحت ايما فرح وكادت تقفز من مقعدها كما يقفز الطفل الصغير عندما يشاهد
لعبة يقدمها له والداه. ولكنها تماسكت واستعدت الى ان تصعد الحافلة. وصلت الحافلة
رقم خمسة واربعين، وهم الجميع بالركوب وهي بينهم. وما ان صعدت حتى اتجهت صوب اقرب
كرسي وجددته فارغا ثم جلست بجانب النافذة وجلست بجانبها امراة في العقد السادس من
عمرها، عجوز تمسك بتلابيب شنطتها وتبرز منها ملامح أصداء الماضي. نظرت ميرامار
اليها وأومأت برأسها تحية لها فردت عليها المرأة بإماءة صغيرة وابتسمت لها فظهر من
فمها ناب فضي عكس ضوء الشمس اثناء نزولها من على الافق. احنت ميرامار رأسها على
النافذة تتطلع الى الشوارع والبيوت اثناء سير الحافلة. لم تقاوم ثقل جفنيها فغلبها
النعاس من فورها. لم ينتبه سائق الحافلة الى نتوء في الطريق على الاسفلت فداس عليه
محدثا رجة عنيفة ايقظت كل النائمين. ففتحت ميرامار عينيها مشدوهة واخذت بضع ثوان
حتى تفيق من غفوتها وتدرك ان الشمس قد قاربت على الغروب. نظرت في ساعتها فوجدتها
الخامسة والنصف فتململت في جلستها لبعد المسافة المقطوعة وارادت ان تقف لكي تفرد
ركبتيها بعد ان اوجعها طول الجلوس. فستاذنت المراة بجانبها لكي تفسح لها الطريق
ووقفت تشاهد البشر بصمت رقيق. ادارت رأسها في كل الاتجاهات تبصر الناس ولكنها
استاءت من مناظرهم الفجة. وسألت نفسها، لماذا ترتسم علامات البؤس والشقاء على
البشر دائما؟ لماذا اختفت الفرحة والبسمة؟ لم تستطع الاجابة.
رفعت يديها
لتزيح خصلة من شعرها وتدفعها تحت حجابها المزركش لتواري الوان الشتاء التي بدأت
تزحف على رأسها. تملكتها العصبية من منظر الناس واجتاحتها هموم اخرجتها الانفاس
وقررت ان تتمرد على كل الشياطين والوسواس. فخطفت شنطتها من على الكرسي وعلقتها على
كتفها واقتربت من باب الحافلة حتى ان السائق التفت اليها ونظرات التعجب على عينيه.
وقبل ان يتكلم بادرته بطلبها بان يسمح لها ان تنزل من الحافلة . فمط شفتيه مستهجنا
طلبها ومستغربا في الوقت ذاته من ردها. فالحت عليه بان يخرجها من هذا التابوت الذي
يتحرك ولا يصل الى وجهته ابدا. وتحت ضغطها المستمر رضخ في النهاية الى ان يتوقف على
جانب الطريق والقى في سمعها كل نصائح الرفيق. ولكنها اصمت اذنيها عن سماعه واخت
القرار بكل اندفاعه. وفتح الباب الامامي من الحافلة ونزلت منها مسرعة حتى لا
تتراجع عما انتوته. وبعد ان سارت امتار قليلة سارت بجانبها الحافلة والكل ينظر
اليها متعجبا.
وتحت ظلال الشجر
المنعكس من ضوء القمر سارت ميرامار تشدو مغنية بكلامات قد الفتها في حينها يقول
مطلعها،
طال غيابك
وكلي امل في لقياك
والتقيتك
فغدوت اشتاق الى رؤياك
وبعد ان مر
الزمان سريعا
لم اجد فرقا
بين وجودك او ذكراك.
تعليقات
إرسال تعليق