لمبة جاز


برغم ان عندي بعض كشافات النور التي تضئ عندما يتم قطع النور هذه الايام ، الا انني اثرت ان اشتري لمبة جاز حتى يتعرف ابنائي على طرق الاضاءة القديمة والتي كانت تنير منازلنا في الازمنة السابقة قبل ظهور المخترعات الحديثة. وقبل ان اطرق باب منزلي حاملا اللمبة ، اعتقدت لوهلة ان زوجتي سترحب بالفكرة التي خطرت ببالي الا انها وبمجرد فتح الباب لي وجدتها تجهمت ونزلت علامات الشياطين على وجهها وصمتت صمت القبور ولم تنبس ببنت شفه. ففهمت من تعابير وجهها الجامدة انها غضبت ولا اعرف لماذا. وبما اننا لم نعد نتواصل في مشاكلنا كما كنا واصبح باب النقاش مقفولا قبل ان يفتح، لم اوجه لها اي سؤال لحالة الضيق البادية عليها. ولكنني ادركت انها كانت تريد مصباح حديث افضل من لمبة الجاز. ومع علمي بصحة وجهة النظر هذه الا انني لم اكن اقصد تفضيل لمبة الجاز على المصباح الحديث وانما القصد كان كما ذكرت سابقا هو انني اريد ان يتعرف ابنائي على سمة الحياة في العقود السابقة. فكيف بشعب يريد ان ينطلق الى المستقبل وهو يريد ان يتجرد من حيواته السابقة ويمحوها تماما؟
المهم انني لم اعبأ ببوادر ضيقها . ثم افرغت زجاجة من وقود الكيروسين كنت قد احضرته مع الزجاجة واشعلت اللمبة واولادي يحيطون بي مسرورين مما يحدث. ووجدتهم فرحين كثيرا بلمبة الجاز لانهم لم يروا هذه اللمبة من قبل حتى انهم اشاروا على بان اشعل لهم هذه اللمبة عندما يقطع النور ولا يستخدموا الكشاف الحديث. ان البسيط والغريب له بهجه في نفوس الاطفال اكثر كثيرا من المخترعات الحديثة الصماء التي لا يستطيع الاطفال ادراك طريقة تشغيلها او كنهها او ماهيتها.
ولنترك الان ما حدث ونتوغل في اعماق الفكرة التي واتت زوجتي وهي عدم الترحيب بالغريب والمثير. هذه المشكلة ليست لها وحدها ولكنها اصبحت سمة هذا الوقت. كثيرا من الناس لم يعودوا يرحبوا بالماضي حتى ان بعضهم يريد ان يمحيه تماما من الكتب والاخبار والاحاديث. يريد ان يسكب عليه الكيروسين الذي احضرته لا لينير الطريق ولكن ليحرقه ويدمره تماما. لماذا يفعل هؤلاء مثل هذا الفعل؟ الديهم الحجة على فعلهم ام انه الكره الاعمى الذي لا يستطيع احدهم التمييز بين الخير والشر؟
ولنرجع قليلا لرؤية الاحاديث التي تدور هذه الايام على نكسة يونيو ومساوئ عهد عبد الناصر التي يرددها الاخوان في كل مكان ومحفل يذهبون اليه. الى هذه الدرجة يكره الاخوان عبد الناصر ولا يرون فيه اي جمال؟ وكيف اصدقهم وانا اشاهد مظاهر الحزن ترتسم على وجوه الملايين من المشيعين اثناء جنازته الجبارة؟ وكيف اصدقهم وانا ارى السد العالي صامدا في وجه الفياضانات ومخزنا المياه لاكلنا وشربنا؟ وكيف اصدقهم وانا ارى بيع مصانع القطاع العام الذي بناه وشيده بعرق وجهود المصريين؟ وكيف اصدقهم وانا ارى السيارة رمسيس التي كانت اول سيارة مصرية في عهد عبد الناصر؟ كيف اصدقهم وانا ارى قناة السويس تعود لملكية المصريين؟ بالله عليكم كيف اصدقكم؟؟؟؟
واذا كان عهد عبد الناصر سيئ كما تقولون ، فماذا فعلتم انتم لمصر؟؟ ماذا قدمتم لها؟؟ لم ارى منكم الا الزعيق والنعيق على صفحات الجرائد والقنوات الفضائية. واذا احتججتم بانه كان يسجنكم ، افلم تكونوا تستحقون السجن؟ الم تدمروا وتخربوا وتاريخكم حافل بجرائم القتل والدموية؟ الم تخرج من بين ايديكم كل الجماعات الارهابية التي دمرت الاقتصاد المصري في اشد اللحظات احتياجا الى النقد الاجنبي؟ الا تشعرون بالعنف في خطابكم والدموية تفوح من بين ثنايا كلماتكم؟ الا تستخدمون لغة التهديد في كل ازمة تواجهكم؟ واذا كنتم اهل عنف ودموية وحرب فلماذا لا تذهبون الى تحرير القدس كما تدعون؟ الى متى ستظلوا تكذبون على انفسكم قبل ان تكذبوا علينا؟
ان عبد الناصر الذي تكرهونه ، اعطاكم ولم يأخذ منكم شيئا . عبد الناصر اعطاكم الارض وعلمكم وعلم ابنائكم وعلمنا جميعا. الم يقسم عليكم الارض الزراعية؟ الم تسافروا وتتعلموا في الدول الاجنبية على يديه؟؟ هل هذا هو الرد والجميل الذي تحتفظون به لعبد الناصر؟
وعبد الناصر مثله مثل اي انسان له مساوئ ولا نقول انه نبي. ولكنه في الوقت ذاته لم يدمر الا من اراد بمصر سوء. وان كانت خطيئته الكبرى نكسة 67 ولكن هذه الخطيئة انمحت بعد عودة سيناء ولن نردد معكم بانها عادت منقوصة. لان اسرائيل ومن ورائها امريكا لم ولن تكن تسمح بان يتخطى المصريين حدود مضايق سيناء حفاظا على الامن القومي لها. وبالتالي سواء عبد الناصر او غيره كان سيقع ضحية لهذه الحرب القذرة لانها كان مقدرا لها الحدوث. واجتمعت فيها كل احتمالات الخدع وبالتالي فلا يجب ان نلوم الماضي وننسى محاسنه وما اكثر محاسنه.
عودوا الى رشدكم ، اعترفوا بخطأكم ولو مرة واحدة في تاريخكم. انتم لستم بانبياء ولكنكم بشر تخطئون اكثر مما تصيبون. كرروا تجربة عبد الناصر في البناء وازيلوا الكره من قلوبكم حتى تروا نور التقدم. انسوا ما فات ولا تناطحوه الوهم وطواحين الهواء. فلن يجدي ذم او سب عبد الناصر في شئ ولن يدخل معه احد قبره لقتله لانه اصبح ترابا. كونوا عونا وساعدا للبناء ولا تكونوا معولا للهدم. انكم بكرهكم لعبد الناصر يكرهكم الشعب المصري حتى انكم بفعلكم قربتم حسني مبارك ذات نفسه من قلوب المصريين. وجعلتمونا نندم على ازاحته ورفعتم شعبيته لاول مرة في تاريخه. انسوا الماضي وابدأوا صفحة جديدة لو لديكم النية على ذلك. ارجعوا الى الماضي وخذوا منه الطيبات واتركوا ما فيه من الخبائث.
ارجعوا الى لمبة الجاز وانيروا الطريق وابدأوا منها اذا اردتم فعلا نهضة مصر وبنائها والا والله لن يرحمكم الشعب المصري وسيكون عبد الناصر ارحم عليكم منهم.


تعليقات

  1. قرأتها وأحييك علي كل هذا . لست كبيرا بما يكفي لوصف البهجه التي تربيتم عليها مع تلك التي تضئ القلوب قبل . الأماكن . عشرون عاماً أملكهم من العمر فقط ! دخلت هنا صدفةً لأبحث علي موقع التواصل الإجتماعي لصورة لتلك الللمبه لأكتب عنها بعض الخواطر وكيف كانت جدتي تضيئها وتشع البهجه من قلوبنا ! أتذكر يوماً انني كنت سأتسبب في حريق بالغ الخطوره حينما كنت أعبث بها وكأنها آله عجيبه كنت أملك من العمر سبع سنوات فقط يالها من أيام . لقد اشتقت لها جدا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية