تركيا تبحث عن هوية


رأينا امس محاولة الانقلاب التركي على الرئيس الاردوجاني الاخواني النزعة والهوية . ولن نخوض في تحليل ما حدث من الناحية السياسية واذا كان ما حدث هو فيلم من اخراج حزب العدالة والتنمية لاحكام قبضته على الجيش وتوجيه ضربة قاضية لحاملي لواء العلمانية او ماتبقى منها في الحكم التركي ام لا . الا ان ما نود طرحه هو مناقشة ما وصلت اليه تركيا في خلال قرن من الزمان تقريبا من خوض التجربة العلمانية وما آلت اليه في ظل الحكم الاردوجاني .
في بدايات القرن الواحد والعشرين قام حزب العدالة والتنمية على انقاض حزب الرفاه الاسلامي بقيادة نجم الدين اربكان المعروف بولاءه لفكر الاخوان المسلمين وتبعه في قيادة الحزب رجب طيب اردوجان الرئيس الحالي . وتجربة صعود احزاب اسلامية في تركيا في ظل الدستور العلماني لم يكن وليد يوما وليلة ولكنه قديم قدم صعود العلمانية ذات نفسها على يد اتاتورك .
الا ان المدرك لطبيعة الاحزاب الدينية يعي جيدا انها احزاب تتحين الفرصة للانقضاض على الحكم مستغلة مبادئ العلمانية ومن ثم نقضها بعد التمكين . وهذا ما حدث ويحدث فعلا في تركيا . فتركيا التي تتشدق بالديموقراطية لا تؤمن بها في حقيقة الامر الا اذا كانت تخدم نظام الحكم . وكل من له قليل بصر يدرك ان نظام الحكم التركي هو نظام علماني الدستور ديني الهوية والقومية . فاذا نظرنا الى التركيبة الديموجرافية للسكان في تركيا نجد ان كلها مسلمين لان نسبة المسيحين في تركيا لا تتجاوز 1% من اصل 80 مليون تقريبا . واغلب المسلمين في تركيا هم من السنة ونسبة قليلة للغاية من الاقليات الشيعية في مناطق الجنوب الكردي . اذا فتطبيق مبدأ العلمانية يناقض طبيعة المجتمع ذو الدين الواحد والمذهب الواحد لان العلمانية في الاساس هي مبدأ قائم على تعدد العرقيات والاثنيات في المجتمع الواحد وتضعف بالتالي ويضعف نفوذها في المجتمع المنغلق ذو التركيبة الواحدة .
النقطة الاخرى التي يجب ان ننوه اليها وهي نقطة رأها بالتاكيد كل من زار تركيا ، هي ان الشعب التركي لا يتحدث الا اللغة التركية الا من رحم ربي حتى افراد الجوازات في المطار الذي يجب ان يوجد به من يتكلم الانجليزية على الاقل . فالمجتمع التركي مجتمع منغلق جدا برغم ما يبدو من مظاهر التقدم لديهم . وكل من تعامل معهم يدرك الطبيعة المنغلقة والجفاء في تعاملهم حتى قلما ان تجد من بينهم من يضحك.
فتركيا الحالية تعاني من صراع هوية رهيب يبدو جليا حين تمشي بين شوارعها ، فتجد النقاب يسير جنبا الى جنب مع الميني جيب ، وتجد ابواب الديسكو مشرعة امام ابواب المسجد . وتجد المطاعم تعج بالزوار في نهار رمضان ( رأيت بعيني ) .
هذه المشاهد تعطي انطباع زائف بان تركيا العلمانية تعيش في سعادة غامرة وتسامح بين الجميع الا ان الحقيقة التي تختبئ تحت السطح ، هي ان تركيا تعاني انقسام وتشتت بين طرفي الصراع الازلي . طرف يجرها الى الخلف حالما بدولة خلافة وامبراطورية اسلامية تحكم قبضتها على نصف العالم ، وطرف يحاول دفعها الى المعسكر الاوروبي وتخليصها من حكم ديني سلطوي يترقب الفرصة لتدمير كل انجازات اتاتورك وهدم تمثاله ان استطاعوا .
لذلك فعلمانية تركيا هي علمانية بدون منهج ، هي اسم على ورق فقط . ولا نخطئ ان قلنا ان مصر دولة علمانية اكثر من تركيا ذات الدستور العلماني .
الايام القادمة ستحمل مفاجآت في الصراع التركي نتمنى ان تنتهي على خير ..




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية