هدأة الروح ( قصة )

تعود الروح لجسدها لتهدأ بعد رحلتها المجهدة.
مشهد 1
على مكتبه المغطى بطبقات من الكتب والاتربة ، جلس دكتور الفلسفة وحيدا حزينا مطأطئ الرأس شاخصا بصره على شئ صغير متحرك على الارض لا يدرك كنهه. متكئ قليلا على مكتبه واصبعه متدلي من كفه المبسوط على سطح المكتب. لم يعي كم من الوقت مر على جلسته هذه ولم يفطن للواقف امامه قرابة الخمس دقائق .
تنحنح الغريب باسمه ففزع الدكتور لحظتها وادار نظره باتجاه الصوت فلم ير الواقف جيدا . اعتدل والتقط نظارته وخلع نظارة القراءة من على عينيه وارتدى الاخرى.
" من انت ؟"  قالها الدكتور بحدة تنبئ عن خوف..
" اسف على المقاطعة ، ولكن نحن نريدك في امر هام وعاجل " قالها الغريب وهو يبتسم ليهدئ من روع الدكتور .
" اني اسألك من انت وانت تقول نحن نريدك ، اذا من انتم ؟؟ "
" ستعرف ولكن بعد ان تاتي معي "
" لن اتحرك من هنا الا بعد ان اعرف من انتم وماذا تريدون "
اخرج الغريب بطاقة من محفظته واعطاها للدكتور ولم تمر ثوان حتى قام الدكتور واتجه صوب الباب وتبعه الغريب وخرجا سويا ..
 مشهد 2
اثناء جلوسه على كرسي خشبي موضوع امامه طاولة مربعة الشكل بارزة الاطراف ، شرد ذهن الدكتور قليلا فيما سيلاقيه ويجابهه من اسئلة متعلقة بالتهم التي سيواجهها والتي لم يعرف بعد ماهي . وبدأ عقله في فرض اجوبة لجميع هذه الاسئلة الوهمية . سواء كان شارد الذهن او مشغول الذهن لايدرك حواليه ،هكذا يعمل عقله والذي يجعله لا يشعر غالبا بالمحيطين به  ، والذي لم ينبهه ايضا باصوات خطوات قادمة باتجاهه.
جلس المحقق امامه مصوبا عينيه عليه ، فوجم الدكتور واستفاق للواقع .
" اولا اطمئن ولا تجعل هاجس الاسئلة التي تدور  بعقلك ان يخيفك ، فانت لست متهم بشئ وانا لست بمحقق " هكذا بدأ الغريب الاخر حديثه بالكلام .
" ولماذا انا هنا اذا ؟، ومن انتم وماذا تريدون ؟" رد عليه الدكتور بعفوية
" سأقول لك بدون مقدمات او ديباجة ، فانا اؤمن بان خير الكلام ما قل ودل . انت هنا فقط بسبب احد ابحاثك النظرية والتي قد كنت نشرتها منذ مدة طويلة ولم تلق الصدى المطلوب وقتها .  نريد منك ان تشرف على احد المشاريع العلمية  والمتعلقة بهذا البحث "
" اي بحث تتحدث عنه ؟ ، ولما وجدتم الاهتمام به الان ؟ "
" البحث المعنون بخروج الروح من جسدها وانطلاقها في عالم الدنيا اثناء النوم "
" وماذا به هذا البحث ليشغل بالكم ويجعلكم تؤسسون له مشروعا ، ثم كيف تقومون بذلك بدون موافقتي ؟ "
" ولماذا اتينا بك اذا ؟ ، فلهذا انت هنا لكي ناخذ موافقتك "
" وكيف عرفتم اني سأوافق ؟ "
" وهل يمكن ان ترفض ؟ " قالها الغريب وعلى وجهه ابتسامة مكر غريب فهمها الدكتور على الفور.
طأطأ الدكتور رأسه وصمت صمت الموافق المجبور ..
هكذا هي النظم الشمولية لا تعطيك فرصة للرأي او حتى للتنفس .
مشهد 3
لم يدرك الدكتور كم من الايام والسنين سيمر لكي يرى بحثه النور . هذا البحث الذي طالما سبب له الازعاج والتعجب واحيانا نظرات الاستخفاف من المحيطين به سواء كانوا زملاء عمل او اصدقاء وحتى زوجته واولاده. الكل كان يهاجمه ويشنع به ويدعونه بالمجنون فيما بينهم وهو يعلم ذلك جيدا.
حتى جاءت اللحظة التي لم يكن يتوقعها لينفض التراب من على البحث ويعيده للحياة . وقف امام مكتبته العتيقة وسحب البحث من احد الرفوف ووضعه على المكتب امامه . ظل يحدق فيه كما يحدق اب في وجه ابنه القادم للتو للحياة . يتأمله بصبر ويلمسه بحنان ويقلب صفحاته بتمهل ويقرأ سطوره بتمعن .
بدأ الدكتور يقرأ البحث مجددا كأنما يقرأه لاول مرة ، كأنه لم يكن هو من كتبه . عادت ذاكرته حينها للوراء قليلا وشرد في ذكرياته . اراح ظهره على كرسي مكتبه وامال رأسه للخلف فوقعت عينيه على الثريا المعلقة في السقف ومن ثم سرح .
هذا البحث كان يتحدث عن خروج الروح من الجسد اثناء النوم وانطلاقها في عالم الدنيا ، لا حدود تمنعها او عواقب توقفها. تنطلق الروح لترى وتحس ما يحدث في العالم المادي . تشاهد ما يحلو لها ثم تنقله لجسدها المرتبطة به دوما ، فيشعر الجسد والعقل مايحدث للروح اثناء هيامها . احيانا ترى الروح احداث بسيطة واحيانا تراقب احداثا مفزعة فتنتقل الصورة مباشرة لعقل صاحبها النائم ، فيرى اما احلاما سعيدة او كوابيس مرعبة . ترى احيانا وجوه مألوفة واحيانا اشخاص غير معروفين بالمرة . لها القدرة على الوصول للماضي ولها المقدرة على استشراف المستقبل . تنقل الصورة بحذفيرها فيراها النائم اما ساطعة او يشوشها العقل قليلا .
هذا البحث كان يدحض نظرية فرويد فيما يخص الاحلام . فنظرية فرويد كانت تفترض ان العقل اثناء الحلم لا يمكن ان يختلق صور لاشخاص من تلقاء نفسه . وان النائم اذا رأى اشخاص غير معروفين لديه فلأنه لا يتذكرهم فقط . فهم كانوا قد مروا عليه في السابق بالتاكيد والعقل يخرج له صورهم من ذاكرة العقل الباطن فقط .كأن يكونوا مروا عليه وهو طفل مثلا ، فلا يتذكرهم في لحظات اليقظة ولكن تخرج له صورهم اثناء النوم احيانا .
الا ان هذا البحث كان يؤكد باطلاع الروح على عوالم اخرى خفية ، يمكن فيها للروح ان تصل لحدود السماء احيانا . تسافر مسافات بعيدة وتزور بلاد ابعد . تدخل بيوت وتسير بطرقات وتسبح وتغوص بحار . تشاهد صراعات وحروب و تكر وتفر منها .
مشهد 4
سمع الدكتور طرق باب مكتبه فانتبه للقادم والذي كان احد زملائه الاعزاء . دخل زميله وجلس امامه فاعتدل الدكتور في جلسته . تطرق الحديث بينهما عن احوال العمل كالمعتاد الا ان الدكتور كان يريد ان يفضفض عما حدث معه وعما يجول بداخله .
" ماذا بك ؟" سأله الزميل .
" سأحكي لك ما حدث الليلة الماضية ولكن لا تخبر احدا بما سأقوله لك "
" ومنذ متى وانا اتكلم ، فانت تعرفني " رد عليه بضحة بسيطة.
" امس جاء الي احد الزوار بعد ان ذهب الجميع ، فانت تعرف انني اظل بالمكتب حتى ساعات متاخرة ، وطلب مني ان اذهب معه . وبالفعل ذهبت معه بعد ان اعطاني بطاقة عمله ، فهو من احدى الهيئات السيادية بالدولة . وبعد ان وصلت الى مقرهم وجدتهم يطلبون مني ان اشرف على احد المشاريع والمتعلقة باحد ابحاثي القديمة والتي قد كنت نسيتها بالفعل حتى ذكروني بها ثانية "
" وما هو هذا البحث الذي شغل بالهم الان ؟"
" البحث الذي اثار كثيرا من اللغط لو كنت تتذكره "
" لا تقل لي انه البحث المتعلق بالروح !!"
" نعم هو "
" ما هذا الكلام الذي تقوله ، وما هو المشروع العظيم الذي دعوك من اجله " قالها بتهكم
" الفكرة بكل بساطة هي ، هي انهم يريدون تأسيس برنامج تقني علمي موضوع فكرته كاملة علي بحثي "
" لم افهم اي شئ ، وما علاقة هذا بذاك ؟"
" انا اعلم انك قرأت البحث جيدا وتشاورنا فيه كثيرا فيما مضى ، هل تتذكر النقطة التي سردها في سياق البحث عن اطلاع الروح على الاحداث الواقعية ؟"
" نعم اتذكر ، اكمل "
" هذه النقطة بالتحديد هم ما يريدونها "
" ايضا لم افهم ، رجاء اكمل بدون الغاز "
" حسنا ، انا اشرت في البحث على ان الروح ترى احداثا كثيرة اثناء خروجها من الجسد ، ومن ضمن هذه الاحداث قد ترى جريمة قتل مثلا ، وترى وجه القاتل ووجه الضحية فتنقل الصورة لصاحبها النائم فيرى ما تراه روحه ، وعندما يستقظ يتذكر احداث الحلم ولكنه لا يعرف الاشخاص الذين رآهم في الحلم . وهذه النقطة الاخيرة بالتحديد هي قضية الخلاف بيني وبين فرويد وهي ايضا النقطة المتعلقة بالمشروع "
" اكمل "
" ماذا اكمل ؟ فقد قلت لك كل شئ "
" ولم افهم اي شئ ، ماذا يريد هؤلاء الناس منك بالضبط ؟"
" هم يريدون تاسيس برنامج للتعرف على الوجوه يكون واجهة افتراضية لاي احد شاهد في حلمه جريمة قتل وشاهد القاتل . انت تعرف ان هناك بعض جرائم القتل التي لم تصل فيها الشرطة للجاني . لذلك يريدون ان يؤسسوا هذا البرنامج حتى اذا كان هناك من حلم بالجريمة فياتي ليتعرفوا هم على الجاني "
" هذا كلام فارغ "
" لا الومك فيما تقول ، انا ذات نفسي لم افهم ابعاد الموضوع بعد ولكن اعادة هذا البحث الى النور مجددا اثارت في نفسي شئ من التحدي جعلني اقبل المهمة الموكلة الي.
القصة بكل بساطة ، اذا حلمت بجريمة قتل وقعت في انجلترا مثلا وكان الجاني شخص اسود البشرة مثلا والضحية لامراة بيضاء ، وشاهدت وجهي الجاني والضحية في الحلم ، فما عليك الا ان تدخل على موقع الكتروني ينشر جميع الجرائم التي تقع على الكرة الارضية بصورة فورية وتختار البلد الذي وقعت فيه الجريمة التي شاهدتها وتبحث فيها عن وجه الضحية المألوف لديك والذي شاهدته في الحلم وبعد ان تختاره ستجد مربع متعلق بوجه الجاني تضغط عليه وتعطي مواصفات الجاني الذي شاهدته ايضا في الحلم . وبعدها يقوم الموقع برسم صورة افتراضية للجاني ويرسلها اليك مجددا لمقاربة الصورة . ثم في النهاية يكون لدى المحققين صورة تقريبية عن وجه الجاني تسهل لهم عملهم في القبض عليه "..
  " هذا كلام تخريف ، لا يمكن ان تتهم احدا لمجرد ان حلم به انسان . فانا ممكن ان اراك في حلم تقتل فيه زوجتي واكون انا الفاعل ، فهل لي ان اتهمك لمجرد اني شاهدتك في الحلم ؟ "
" يا عزيزي انا اتكلم عن الجرائم التي لا يتعرفوا فيه على الجاني ، بالاضافة انه ليس كل جريمة قتل يحلم بها انسان ما ، كل ما هنالك هو محاولة علمية للمساعدة فقط "
" هذا ليس بعلم ، انت فقط تحاول اثبات صحة بحثك فتوافق على ما يريدونه من عبث "
" وليكن ، فلماذا لا احاول ان اتاكد مما كتبته . ان صح فقد افدت البشرية وان اخطأ فمزقت البحث ولا ابالي "
" انت تريد الشهرة ليس الا "
" يا صديقي ومن منا لا يريدها ، الشهرة معناها انك نلت التقدير الذي تستحقه من الاخرين . معناها ان تعبك ومعاناتك كل هذه السنين لم يذهبا سدى . معناها ان تموت مرتاح البال "
" افعل ما يحلو لك ، فلن اعاتبك "
خرج الصديق وعلى وجهه غيظ مكتوم ، اما الدكتور فرجع بظهره للخلف وعلى وجهه ابتسامة رضا مقسوم.
تنفس الصعداء واكمل قراءة بحثه مجددا وهدأت روحه واستكانت بعد ان كانت مضطربة كل هذه السنين.

تمت
   
   





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية