السرايا الصفرا


عندما شاهدت صورته ممددا على سرير المستشفى وهو ينزف من الجروح القطعية التي اصابت راسه، تساءلت عمن يكون فعل ذلك ولماذا. وعندما بحثت عن الموضوع وجدت ان القصة كلها اختلاف في الاراء. أإلى هذه الدرجة وصل بنا الحال لان نقاتل بعضنا لمجرد اختلاف الرأي؟ لم اعد اتعجب كما كنت في الماضي لان نكبات الزمان فعلت فعلتها بحالتي النفسية. لم اعد ارتعد من مشهد الدماء ولم يعد قلبي يخفق عندما اعلم ان شاب قتل ابويه او ان ام القت بفلذة كبدها في النهر وهو حي. انا لم يعد انا !!
هل الكلام لم يعد مجدي فننال مأربنا بحد السيف؟ هل لم نعد نفهم بعضنا عندما نتكلم؟ هل زاد اختلافنا الى الدرجة التي يستحيل معها التآلف؟ هل تنامى الشعور بالبغض الى الحد الذي جعلنا نغلق ابوابنا في وجه بعض؟ هل مات العطف والحب؟ هل اصبح الغيظ والكيد هما الصفتان المترادفتان لوصف واقعنا وحياتنا؟ هل اصبح الشتم والقذف والسب اسلوب حياة ؟
كم رايت اثنان يتجاذبان اطراف الحديث وما ان يقوم احدهم حتى يسبه الاخر في ظهره. هل هذا كره ام غيبة ام مرض ام وساوس شيطانية تلبثت عقول البشر؟ لم اعد استطيع التفسير وتوقف عقلي عن التفكير.
هل وصلنا الى مشارف الانهيار النفسي وبدأت النفس البشرية تنثر خبائثها في الانحاء مدمرة امامها كل محاولات الاصلاح؟ مهما حاولنا من تفسير لكل هذه الاحداث التي نشاهدها يوميا لن نستطيع ان ندرك حجم المأساة التي نعيشها. ومهما استشعرنا البؤس والشقاء الضارب بجذوره في العقول فلن نقدر مقدار الخراب الذي نتجه اليه بسرعة الصاروخ. لايمكن ان نبني او نشيد او نعمر اي بقعة من الارض بواسطة ايادي بشر يعانون من مثل هذه الامراض. واذا اردنا ان نعطي نفسنا الامل ونقنع انفسنا بسلامة الاجراءات ، نكون بذلك مثل الذي اراد ان يدير سيارته بالماء. نحن وصلنا الى مرحلة لا نعرف اننا مرضى واذا عرف احدنا لا نعرف طريقة العلاج حتى وصلت بنا الحال انها اعيت ما يداويها. فهاجرت العقول التي خافت على نفسها مغبة الوقوع في مثل هذا المستنقع من الجهل والتخلف. واضمحلت الافكار التي قد تساعدنا على النهوض وانكمشت وضمرت كل المحاولات الفردية للاصلاح واصبحنا مثل الورم المتحجر لا تشفيه اي ادوية. ومن طرائف وعجائب القدر ان تجد ان هناك من يدعي ان هذه الامراض تشفيها الادعية والابتهالات والتضرعات وغاب عنه انه جزء من هذا المرض. فهو بهذه الوصفة الطبية لا يقبل اي نقاش فيها ويرفض اي طريقة لشرح منهجه ويكفر من يحاول ان يعلق عليها واصبح طرفا من الاختلاف الذي نسبح فيه. الكل يرفض تقريب وجهات النظر والكل يطعن في الاخرين. لا نريد ان نسمع رأيا اخر ونردد مثل الببغاوات اننا متسامحين ونقبل الاخر ونحن ابعد ما نكون عن ذلك. نحن نكذب على انفسنا ولا نشعر ولانفهم في الوقت ذاته كل ما يقال. ما اصعب ان لا تدرك انك خطأ.
التخبط اصبح الصفة السائدة في مجتمعنا، نرتكب المصائب ونقول عليها اخطاء. نقتل عن عمد ونقول عليه قتل خطأ. نكذب ونقول عنه انه تقية او مداراة. نشتم ونغتاب ونطلق عليها فطنة. لم نعد ندرك المسميات او معاني الكلمات فتساقطت عننا المفردات والمترادفات. نلبس وجوه كثيرة ولا نعرف ايها هو الصادق وايها هو الكاذب. تعودنا على الخداع حتى اصبح الصدق عمله نادرة. اختفت حسن النية حتى كدنا ان نشك في انفسنا. وبعد كل ذلك لا نزال نرى من ينادي ويدعي باننا خير امة اخرجت للناس واننا على طريق الحق والصلاح وادخلوا مصر ان شاء الله آمنين.
نحن نكذب على انفسنا كذب مفضوح ليس به حمرة الخجل. يجب ان نعري انفسنا لكي نرى الامراض الملطخة كل جزء على اجسامنا. يجب ان نتوقف عن الكذب والخداع والغيبة والنميمة حتى نشفى قبل ان نبدأ في انشاء اي مشروع او اصلاح. يجب ان نصلح من انفسنا قبل اي شئ. يجب ان نربي انفسنا قبل ان نربي ابناءنا. يجب ان ننشر بذور الحب في القلوب قبل ان يقتلنا الغل والحقد. نحن مرضى يا بشر  ونحتاج الى الذهاب الى السرايا الصفرا
 اصحوا.
   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية