العبث المقدس


قد لا نحتاج الى نظرة متعمقة لواقع الحال المرير الذي نعيشه هذه الفترة من الزمن لكي نستبين حجم خراب العقول التي ترتع في مقدرات أمة. فمنذ الوهلة الاولى وانت تشاهد التليفزيون او تطالع احدى الجرائد سواء كانت حكومية او معارضة. او حتى تقرا كتابا لاحد كتاب هذه الايام فسوف يستلفت نظرك كم الجهل الضارب بجذوره في كل كلمة تسمعها او فقرة تشاهدها فتحدث لك ساعتها قدر من الاعياء المصاحب الذي لاتجد امامه الا ان تلقي بصفحات الجرائد في اقرب مكب للنفايات او ان تغلق التليفزيون وانت تزفر زفرة تكاد تدمره. فالصحفي الذي يتكلم في علوم الفضاء وهو لايدرك كيفية صناعة طائرة ورقية ، والشيخ الذي يتحدث في فوائد الصيام وهو لايمت للطب بصلة ، والطبيب الذي ترك مهنته ليعمل أراجوز، ولك ان تضيف من الامثلة ما استطعت. تتوقف عندها لتسأل نفسك سؤالا ، ما هو نوعية العلم الذي درسه هؤلاء. وما الذي جعل طبيب اطفال يتحول الى مفتي؟ ولماذا تعج المدارس والجامعات بكل هؤلاء الطلبة برغم عدم الاستفادة منهم؟ والى ما ذلك من اسئلة..
وبغض النظر عن كل الاحتمالات للاجابة عن هذه الاسئلة واعتقد ان جزء منها سيكون صوابا ولكنني آثرت ان احلل المشكلة من منظور مختلف وغير ملحوظ للكثير من الناس. فقد وجدت ان معظم من يتعلمون ويدرسون في الجامعات شغلهم الشاغل هو ايجاد فرصة عمل في الخارج. فاصبح التعليم عندنا ما هو الا مفرخة لدول اخرى لا تدفع في تعليمهم شيئا. والذي دفع الشباب الى هذه الفكرة هو استنتاجهم الفعلي بان بلدهم لن تقدم لهم شيئا اللهم الا الذي لديه واسطة او ان كان من الاعيان. ولكن الغالبية العظمى من الطبقات المتوسطة ليس لديها هذه المميزات فتحول تفكيرها الى ايجاد سبل اخرى تساعدها في الهروب من جحيم الفقر المزدوج ، فقر الاسرة التي تمني النفس بمساعدة ابنها لها وفقر الحياة المستقبلية ان فكر هذا الشاب في الزواج. فاذا لم تواتي الشاب فرصة للعمل في الخارج فانه يرضى بمصيره المحتوم ويدخل دوامة العيش المرير. عندها لا يجد امامه بد من محاولة تحسين وتنويع مصادر دخله لرفع مستواه المادي . فتجد بعضهم يعمل على سيارة وتجد الاخر قد يلتحق في وظيفة مسائية لتكفي متطلباته هو واسرته.
فالحياة في سيرورتها الحالية لا تنتج انسان سليم العقل بسبب تكبيله وشل تفكيره الابداعي بواسطة همومه اليومية. فلا يمكن ان تجد ابدا انتاج ذا شان وسط هذه الكومة من الضلال. ولا يمكن ان يظهر ابداع وسط افراد معاقين ذهنيا. فنحن مرضى مكبلين العقول.
هذه الحالة من الفكر تسبب نوع من الوهم لدى الناس فينساقون وراء كل ناعق باسم الدين او الفن او حتى الرياضة وتتحول الشخصيات والافكار الى مقدسات لا يجب المساس بها. وينبهر الناس بمقولة فنان او ممثل او حتى كاتب او شيخ. وتظهر طائفة من المريدين لكل انسان مشهور ساعده حسن حظه في الوصول الى احد المنابر. وتتجلى صور العبث عندما يصبح الكلام مصدر من مصارد الدخل. فتجد الجميع يتصارعون للوصول الى شاشة التليفزيون او الراديو او الصحف. فتتوالد الصحف بعضها من بعض وتكثر قنوات التليفزيون وتنفجر قنبلة الكلام على الهواء. والذي يرسخ هذا الاعتقاد عندما يسمع الفقير بان المذيع الفلاني او الممثل العلاني يأخذ اجرا لو اشتعل فيه النيران ما اكلته. فتنمو عنده عقيدة بان التمثيل والفن والصحافة والشهرة هم السبيل الوحيد للوصول الى حياة كريمة والذي يزيده تاكيد بانه قد يجد نفسه احيانا افقه من الشيخ الذي له مريدين او اجمل من الممثلة الفلانية او اعمق دراية من الكاتب الفلاني. فتكبر شجرة الحسرة على نفسه ويظل يردد بان كل الناس لا تقدر موهبته او تعترف بجميله. واذا حاول الوصول الى الشهرة عن احدى هذه الطرق ونجح، تجده لا ينفك يتكلم في كل شئ حتى لا تخبو جذوة الشهرة التي وصل اليها وحتى لا يتهمه احد بانه جاهل او سفيه ( وهذا ما يزيد الطين بلة ). فنجد في النهاية الطبيب يتحدث في مجال الرياضة والمهندس يستخرج الجن والشيخ يتحدث في الكيمياء ، وهكذا.
فالصورة في النهاية تصبح عبثية بحتة ، نصحو على عبث ونتحدث فيه فترة من الزمن ثم ننتقل الى عبث يليه وكأن الزمن توقف عندنا ولم نعد نصنع احداثا مؤثرة في التاريخ. فماذا ستقرأ عنا الاجيال القادمة اذا ارادت ان تطلع على ما فعلناه لها؟ لا شئ هي النهاية المحتومة.
وتكون فترتنا التي نعيشها الان مختومة بعبارة العبث المقدس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية