غرق عبارة ( قصة واقعية )


في احدى ليالي الشتاء قارصة البرودة ، خرجت العبارة كاليتشو من ميناء الصبا البحري حاملة على متنها الف واربع مائة راكب عائدين الى بلدهم بعد طول غياب . كان الجو شديد البرودة والبحر هائج ومائج ولكن ربان السفينة كان لديه باع طويل في الابحار في مثل هذه الاجواء . كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء والركاب جميعهم قد تم تسكينهم في كبائنهم الا من قلة من الركاب الذين لم يستطيعوا ان يناموا قبل ان يتناولوا وجبة العشاء الموجودة على تذاكرهم. وبعد ان مرت قرابة الساعتين على الابحار ، هدأت اصوات الركاب جميعا ولم يعد هناك الا طاقم السفينة الموكل له العمل الليلي .
في هذه الاثناء ، كان فرد الامن الموجود بجراج السفينة يمر بين السيارات ليتأكد بان جميع السيارات قد تم احكام رباطها حتى لا تتحرك اثناء ميلان السفينة في البحر العالي. وهو قد قام بهذا العمل بعد ان وبخه الضابط الاول لعدم الاسراع بهذه المهمة. فهم قد يواجهون امواج عاتية في منتصف الطريق. وبعد اتم فرد الامن مهمته ، استراح على الكرسي الخاص به الموجود في الجراج واسند ظهره الى الحائط ونام. الا ان نومته الهادئة تلك لم تزد عن نصف ساعة لان جرس انذار الحريق الموجود بالجراج قد دوى في المكان. فقام مفزوعا وفرك عينيه جيدا لرؤية ما يحدث. فجرى مسرعا محاولا البحث عن مصدر الحريق. الا انه لم يشاهد اي دخان او دليل على وجود حريق. وبعد ان اطمأن الى ان لا حريق بالجراج. اتجه صوب الهاتف المتصل بغرفة القيادة بالممشى واتصل بضابط الوردية . فرد عليه الضابط واخبره ان يبحث جيدا لان مصباح البيان الموجود عنده لازال مضاءا باللون الاحمر . وهذا معناه ان مستكشف الحريق ما زال يلتقط اشارة على وجود دخان. وبعد دورة ثانية من البحث في الجراج لم يجد شيئا . فابلغ بدوره الضابط المسئول بانه لا وجود لحريق بالجراج. فاطمأن الضابط لكلام فرد الامن ومن ثم ضغط على زر الغاء الانذار . فانطفأ الزر ولم يعد يعطي اضاءة حمراء كما كان يفعل . الا انه بعد مرور نصف ساعة اخرى انطلقت صافرة الانذار ثانية . فاضطر الضابط الى الاتصال بمهندس الوردية حتى يتاكد من هذا الانذار. فقط يكون خلل او عطب قد اصاب النظام وهي حادثة تحدث عادة اثناء العمل على السفن. فقد يتعطل النظام ويطلق انذارات خاطئة من ان الى اخر. وبعد ان استلم مهندس الوردية البيان ، ذهب ليتأكد بنفسه ان الانذار خاطئ. الا انه عندما دخل الى الجراج اشتم رائحة غريبة كالتي نشمها عند احتراق اسلاك الكهرباء. فنادى المهندس على فرد الامن وساله الا تشم هذه الرائحة . الا ان فرد الامن لم يشم شيئا. للاسف لا يمكن ان يشم انسان اي تغير في الرائحة ان كان يجلس مدة في مكان مغلق. ولك في دخول الحمام بعد اي احد مباشرة عبرة !!
وبعد بحث وتقصي شاهد المهندس دخانا يتصاعد من احدى الهوايات التي تعمل لتهوية الجراج. فهرع على الفور الى ابلاغ ضابط الوردية . فقام ضابط الوردية الى ابلاغ الربان مباشرة. وبعد ان تاكد الجميع من وجود حريق قاموا بتفعيل خطة الطوارئ على السفينة وتفعيل خطة مكافحة الحريق.
فقام مجموعة من الطاقم بتجهيز خراطيم المياه ، واخرون قاموا باحضار طفايات الحريق واخرين جهزوا المعدات الطبية تحسبا لاي اصابة . ثم توجه الضابط الاول بالفريق الاول ودخل الى الجراج. ولكنهم فوجئوا بان الدخان قد بدأ في الازدياد حتى ان الرؤية لم تعد جيدة. فبدأوا مباشرة باستخدام خراطيم المياه برغم انهم لم يحددوا بدقة اين مركز الحريق . الا انهم حاولوا استخدام نظام الرذاذ لتغطية اكبر محيط ممكن من الدخان. وبعد حوالي نصف ساعة من استخدام الخراطيم شعروا بالاجهاد وبان الدخان لم يزل يتصاعد. فقرروا ان يزيدوا معدل ضخ المياه للسيطرة على الدخان. الا انهم لم ينتبهوا الى زاوية الميل التي بدأت تأخذها السفينة نتيجة تجمع المياه داخل السفينة وعدم ازاحتها باستمرار. بدأت السفينة بالتأرجح بقوة لاسيما وان البحر كان هائجا جدا في هذا الوقت. حتى ان زاوية ميل السفينة بدأت في الزيادة عن عشر درجات. ظلوا على هذا المنوال ، يحاولون السيطرة على الحريق ولكن فاتهم ان ينتبهوا الى زاوية ميل السفينة وهي الاهم بالحذر . وبعد قرابة الساعتين وقع المحظور. مالت السفينة بقوة على جانبها الايمن بسبب كمية المياه المتجمعة داخلها . وبعد ان كانوا يحاولون اطفاء الحريق بات الامر الان محاولة يائسة للسيطرة على غرق السفينة. الا ان الرياح لا تاتي بما تشتهي السفن. فغرقت السفينة بمن عليها مخلفة قرابة الالف قتيل.....
بعد مرور ثلاثة اشهر على هذه الفاجعة قررت دولة العلم ، وهي الدولة التي كانت ترفع العلم على السفينة وهي دولة ماناما ، ان ترسل فريق غوص وغواصة متقدمة لمحاولة استرجاع جهاز التسجيل الموجود على السفينة لمعرفة اسباب الغرق. ولان السفينة قد غرقت على عمق يتجاوز الثلاثة الاف قدم فقد كان لازاما ان تتولى هيئة الاشراف الدولية الجزء المنوط بالتحقيق.
وبعد محاولات مضنية من قبل فريق الغوص ، تم استرجاع الجهاز وارساله الى معامل التحليل في اوروبا لاستخراج كافة البيانات المسجلة اثناء الرحلة بالاضافة الى محاولة معرفة اسباب الغرق. وبعد ان تم استخراج كافة البيانات من على الجهاز تم ارسال التقرير المبدئي الى الهيئة المحلية لتحليل اسباب الغرق . فارسلت الهيئة خطاب الى احدى الكليات الهندسية لكي يتم تشكيل فريق هندسي لتحليل كافة البيانات لمعرفة اسباب الغرق.
توجه الفريق الهندسي الى مقر الهيئة للاطلاع على كافة البيانات ومحاولة تجميع كافة اقوال الناجين من الحادثة . وبعد مجهود قارب الثلاثة شهور ، توصل فريق التحقيق المكون من ثلاثة اساتذة في كلية الهندسة ، الى ان اسباب الغرق جنائية !!
بمعنى ان الحادثة كانت بفعل فاعل . وليس ذلك فقط ولكن اصابع الاتهام كانت توجه الى الربان وكبير المهندسين ..!!
وبعد ان استقر رأي اللجنة الفنية الهندسية الى هذا التحليل ، عرضوا الامر على الهيئة وشرحوا لها اسباب التوصل الى هذا الاستنتاج القاتل . الا ان الهيئة لم تأخذ بكلامهم مأخذ الجد ، فكيف بربان مشهود له بالكفاءة ان يفعل مثل ذلك. وكيف بكبير مهندسين ان يقدم على مثل هذا الفعل. الا ان احد اعضاء اللجنة اصر على موقفه برغم ان الاخران تراجعا ولم يقررا اي موقف محدد. فقامت الهيئة بشكرهم على مجهودهم الذي بذلوه واثنت على ادائهم وطلبت منهم ان لا يخبرا احدا بنتائج هذا التحقيق حتى يكتمل الى نهايته. فوافق الجميع الا هذا الاستاذ الذي بدأت عليه علامات الامتعاض..
في اثناء احد الليالي قرر هذا الاستاذ ان ينشر ما توصل اليه في هذا التحقيق ويعلنه على الملا . وبعد ان جهز اوراقه ذهب الى احد الصحفيين وعرض عليه نشر هذا التحقيق. فلما قرأ الصحفي التحقيق اسقط في يده من هول ما قرأ. وادرك ان هذا التحقيق قد يكون السبق الصحفي الاحظم في حياته. فشكر الاستاذ على ثقته فيه ووعده بنشره في اقرب فرصة.
بعد ان عرض الصحفي الموضوع على رئيس تحرير جريدته . نهره ذلك الاخير بداعي ان هذا الموضوع الشائك قد يفتح عليهم طاقة جنهم وانهم لايودون الصدام مع احد. فخاف الصحفي ان لا يتم نشر الموضوع ويكون قد فاته هذا التحقيق. فقرر عرض الامر على احد المسئولين ليستشيره فيه. وهنا كانت الطامة الكبرى ....
كان هذا الاستاذ الهندسي يقوم بعمل مشروع لاحدى الشركات وهو عبارة عن بناء مركب صغير تستخدم لعمليات الشد .. وبعد ان تم اكتمال بناء هذا المركب الصغير حان يوم انزالها من على الرصيف . وكان هناك احتفال صغير بهذه المناسبة قد اعدته الشركة صاحبة المركب والاستاذ الهندسي وطاقم مكتبه. وفي اللحظة المتفق عليها بدأت المركب في التحرك من على الرصيف في طريقها الى البحر. ولكن كانت المصيبة . انقلبت المركب على جانبها الايسر وغرقت في الميناء الصغير الذي نزلت فيه. وقف الاستاذ مذهولا وهو يشاهد ما يحدث واصابته ازمة قلبية جراء ما حدث لانه كان مسئولا عن حسابات الانزال التي تمت . وبما انها غرقت فهذا يعني انه كان مخطئ في هذه الحسابات وهذا معناه ضياع سمعته الى الابد ...
في مستشفى الرعاية ،جلس الاستاذ على سرير العناية المركزة يصارع الموت . كان قلبه يخفق ببطء وضعف . فلم يمر يوم الا وكانت اخر انفاسه ....
ولكن يبقى السؤال ، هل تم التلاعب في حسابات الانزال لكي تغرق هذه المركب الصغيرة وبالتالي ضرب سمعة هذا الاستاذ للابد حتى لا يفصح عما توصل اليه في حادثة غرق العبارة؟؟

لا احد يعلم....... 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية