زكريا أهبل بطبعه


بداخل كل منا زكريا صغير. يخرج في مواقف مختلفة في الحياة ليظهر لك بعضا من هبله. فان كنت ممن ياخذون الامور بجدية مفرطة وتذهب الى العمل مكفهر الوجه ، سيخرج لك زكريا عندها ليقول لك ان العمل هو اصل كل شئ ويجب على الناس ان يتفانوا في العمل. وان امكن ، يجب ان يموت الانسان على عتبة معبد الذل والشقاء من كثرة العمل. وسيسوق لك الامثلة من هنا ومن هناك على امم ارتفع شأنها بعد ان مجدت العمل ورفعت من مقامه. وبعد ان تستمع الى نصيحة زكريا، تدخل الى العمل مهددا ومتوعدا كل من يقصر في اداء عمله. وتوقع الجزاءات على كل غافل او غائب. ثم تقرر في النهاية زيادة ساعات العمل على الموظفين لكي ينجزوا كل ما تاخر. وبدل ان يكون يوم العمل ثمان ساعات تطيله انت الى اثنى عشر او ستة عشر ساعة. متناسيا ان الانسان هو الانسان ، مهما حاولت الضغط عليه فلن يعطي لك كل ما تصبو اليه. لان له قدرات يجب عليك معرفتها اولا ثم تضعه في مكانه المناسب. ويجب عليك ان تعطيه حقه عن كل ساعة يقدمها لك. لان تناسيك لجزء من حقه لا يعطيك الشرعية لكي تبخسه حقه لسبب بسيط جدا ، وهو انه لن يعطيك الا بقدر ما تقدم اليه. فاذا لم تقدم له حقه ، سيظهر لك انه يعمل بكد وتعب واحيانا تجده يتصبب عرقا من فرط الاجهاد ولكن ليس بسبب بذل مجهود ولكن بسبب انه ممثل بارع. ومن كثرة اتقانه للدور لن تستطيع ان تخرج منه غلطة واحدة حتى ولو احضرت له أعتى النقاد. لذلك لا تجعل نفسك اضحوكة لكل من حولك ولا تحاول ان تاخذ الا بعد ان تكون رتبت كيف ستعطي.
من الامور الاخرى التي يتدخل فيها زكريا بشكل مباشر. هو عندما يحثك على البحث عن المسؤول عن الوكسة والخيبة التي تحفنا من كل اتجاه.ولكي يطمئنك انك ليس لك يد في هذه الخيبة ، يحاول جاهدا ان يستصغر من شأنك في دائرة المسؤولية. فيجعلك اقرب ما تكون من المتفرج عنه ممثل الدور. اي انه يضعك على كراسي المتفرجين عوضا عن اعطائك دور في المسرحية. الغريب في الامر انك لا تستشعر انك ممثل بارع واحيانا تكون في دور البطولة ولكن لان المسؤولية امر جسيم فانك تنزل عن طيب خاطر عندها من على خشبة المسرح لتبحث لك عن مكان شاغر بين المتفرجين. فتجد لسان حالك يقول ، من المسؤول عن هذه الكارثة او تلك. او من المسؤول عن فساد البلد. وكأن البلد الذي تعيش فيه له وجود في عقلك الباطن وغير موجود امام عينيك. المضحك في الامر ان زكريا من كثرة وسوسته يجعلك تسأل كل هذه الاسئلة بالرغم من انك انت المعني بالسؤال. أليس انت المدير والوزير والغفير والمحافظ وصاحب الدار؟؟؟
عندما تشاهد احدهم في التلفاز او في المسجد او الشارع وتسمعه يقول ان مصر بلد الامن والامان وانها لن تسقط ابدا ويستندوا على ذلك بأنها مذكورة في القرأن. فاصبح ذكرها في القرأن هو حصن الامان لها مهما حاولنا العبث بها. وبات امر هذا التصريح عبارة عن ( كارت بلانش ) لنا لكي نفعل بها ما يحلو لنا ونجرب فيها كل ما نريده. وجعلناها مثل لعبة اعطاها لك والدك وقال لك ، دمر يا بني هذه اللعبة ولا تخف فإنا لها حافظ امين. فيتدخل زكريا عند هذه النقطة ويشجعنا على العبث واللعب. ومع ان مصر لم تصل ابدا الى حد التقديس ، لكننا قدسناها وجعلناها صنم يعبد. هذا الصنم يزداد ضخامة يوما بعد يوم حتى ان الاجيال تؤمن بها على مبدأ هذا ما وجدنا عليه آباءنا. وغفل على الجميع ان تصريح الامن الموجود في القران كان محددا بفترة زمنية – مع افتراض ان مصر المذكورة في القرآن هي ذات مصر التي نعرفها الان –  هي الفترة التي كان موجودا فيها سيدنا يوسف عليه السلام وليس التي كان موجودا فيها فرعون. وبرغم عبثية المشهد الا ان زكريا يأبى ان ننتبه الى هذا العبث ، فيطلق لخيالنا العنان ليجعلنا ننام قريري العين على فوهة بركان معتقدين اننا ننام على سرير دافئ من ريش النعام !!!
وزكريا لا يعطيك فرصة في الحياة السليمة ، هو يتدخل في كل جوانب حياتك تقريبا. ومن اشدها قربا اليك موضوع المدح واستغلال امكانياتك في التقرب الى اصحاب الشأن بغية ان تنال احدى محاسن الدنيا سواء كان منصب او جاه. وهو لا يقول لك مباشرة امدح هذا او ذم ذلك ، ولكنه ياتيك بغتة وهم لا يشعرون. بمعنى انك تطلق الريح لكلامك المعسول في وجه من اردت ان تمدحه. وما عليك الا ان تشاهد التلفاز لترى بام اعينك ماذا يقول اصحاب الرفعة عندما يمدحون صاحب المقام العالي. فانت تجد كلام من نوعية ، ظل الله في الارض ، ان الله اختاره دون البشر. وهكذا دواليك. انهم يفعلون ذلك دون ان يدركوا انهم دخلوا دائرة التعريض التي ان تمكنت منهم لن يغدوا الحق الا عبثا وضربا من الجنون لكل من اراد ان يقيمه. فهم وان كانوا يريدون الحق الا انهم اتبعوا سبيل زكريا في اعلاء شأن الخسة والوضاعة. انه الوهم في اجلى صوره. وانت غير بعيد من هذه الافعال ، فانت وان اردت ان تقيم العدل والحق وتنال نصيبك من الدنيا ، فلن تستطيع ان تأخذه كاملا الا بعد ان تقدم قربان التعريض لمن بيده ملكوت الوظيفة التي تعمل فيها. وينصحك زكريا بقول كلمات لا تجاوز قلبك قيد انملة ولكنك تخضع لنصحه لعلمك بسوء وضعك ان لم تفعل.
وبعد ان ضاع الامل والحق والعدل ، ينتصب تمثال زكريا داخلك وفي يده مفاتيح كل شئ ويغدو قبلة ومحراب الفاسدين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية