طاغور وتوفيقة


قمت من النوم مفزوعا بعد ان ايقظني طاغور وزوجته توفيقة على صوتهما وهم يتجادلان في كيفية اصلاح شباك غرفة نومهما. فقد كان جدار غرفتي ملاصق لغرفتهما، فاذا احتد بينهما النقاش تجدني وقد عرفت مادار بينهما بسبب صوتهما العالي. كان طاغور من اصحاب الصوت الاجش الذي تستطيع تميزه عن باقي المخلوقات. عهدتهما دائما يتعاونان في كل مايخص امور حياتهما. يصلحان كل شئ بايديهما توفيرا للنفقات. لم يدخل نجارا او سباكا بيتهما قط. وحتى الاعطال الكهربائية كان طاغور يصلحها بنفسه. لم يشتري طاغور تليفزيون حديث الا مؤخرا، فلم يزل قانعا بالتليفزيون القديم ذو اللونين الابيض والاسود ماركة سانيو. ولم يشتريا الطبق اللاقط للقنوات الفضائية الا بعد الحاح شديد من ابنائهما. كل شئ في حياتهما ينم عن توفير وتدبر حتى انهم كانوا مضرب المثل في الاقتصاد. فاذا عدنا الى الوراء قليلا لكي نعرف مهنة طاغور قبل ان يبلغ سن التقاعد نجده كان عاملا في مصنع للغزل والنسيج. فعندما تزوج لم يزد مرتبه عن خمسة عشر جنيها كانت تكفيه امور الحياة كلها. ولم يكن طامحا في منصب او جاه. ولم يدخل في مقارنات عقيمة كالتي تاتي للبشر اجمعين. فظل محافظا على نفس الشكل والهيئة لمدة قد تقارب اعوامه السبعين. حتى ان بيته كان يحتفظ فيه ببقايا عصر الاشتراكية والشيوعية بدءا من الراديو ذو اللمبات وصولا الى المكواة الحديد التي كانت تسخن على وابور الجاز. لم يدرك من الانفتاح الا مظاهره ولم تؤثر فيه او تاخذه الرغبة في ملامسة نشوة الخوض فيه. لذلك فكل المحيطين به يتملكهم الشك بانه قد ادخر من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بحملها ذريته. فاذا وجهنا المقراب ناحية ذريته نجدها ولد واحد وبنتان ، احداهما لديها اعاقة في قدمها اليسرى ولكنها ادركت وظيفة من التي تخصصها الدولة لامثالها. وابنه يعمل مدرسا في احدى المدارس وابنته الاخرى تعمل في احدى المكتبات العامة. لذلك فحياتهم جميعا فيها نوع من انكار الذات وعدم الطموح. فلا يسمع لهم صوتا خارج المألوف ولا يطرق بابهم غريب غير معروف. فلم يتلبثهم شيطان المدنية الحديثة ولم تنمو بداخلهم الرغبة على التمرد التي تطال غالبية الناس اليوم. وكيف لا وقد ازداد الحقد في النفوس وعلت الرؤوس لترى جمال الفلوس.
ولكننا بصدد البحث في اعماق هذه النفس البشرية التي صيغت منها نفس طاغور وعائلته. فاذا كان بيدي لوضعتهم في متحف من الزجاج ليشاهد الناس بقايا الانسان القديم. الذي ظل وفيا لقدر من القناعة لم تعد موجودة اليوم. ولكن السؤال الذي يؤرقني دائما ، هل بداخل هذا الرجل قناعة فعلا ام انه يأس واحباط يخرج في صورة قناعة؟
والسبب في طرحي هذا السؤال هو اننا مخلوقون وبداخلنا الرغبة في الحصول على الافضل. فلا يمكن ان تجد انسانا ليس لديه الطموح والرغبة في الامتلاك. سواء كان هذا الامتلاك عينيا او معنويا. كان تمتلك بيتا جميلا او قصرا او ان تحصل على وظيفة افضل فيعتبر هذا امتلاكا معنويا. وبسبب هذه الرغبة في الامتلاك فاننا نسعى جاهدين للبحث عن السبل لنصل الى غاياتنا. واذا لم يكن هناك بعض الضمير لدى المرء لحصل على هذا الامتلاك باي وسيلة كالسرقة والاحتيال والنصب لبناء صرح الطموح. لذلك فالقناعة التي قد نجد البعض عليها ما هي الا قلة حيلة وضعف يبررها المرء لنفسه لتسهيل تعاطيه مع الحياة حتى لايقع في براثن الكآبة ويموت كمدا.
ولا يجب ابدا ان يدخل في مخيلتنا بان القناعة هي حرز خاص بالفقراء ، فالقناعة هي راحتك النفسية بما لديك سواء كنت فقيرا ام غنيا. ولكنها تستخدم بكثرة لدى الفقراء لكي يفسروا لابنائهم سبب فقرهم وعجزهم. فيتولد شعور عام لدى المجتمع الفقير بان لفظ القناعة هو خاص بالفقراء. فيتمرد عليها الطامحين ويرضى بها العجزة.
وسوف يقودنا الحديث بالتبعية الى النظر فيما وراء تفسير القناعة لدى حاملها، وهي ان القناعة تفسر ايضا العجز وعدم وجود الطموح لدى الفرد. فكيف يرضى الانسان ان يعيش بدون ترك بصمة له في الدنيا؟ وكيف يمكن تفسير خلق الانسان؟ فاذا لم اختر وجودي وفرض علي فرضا ولم اختر مماتي وفرض علي فرضا فكيف ارضى بان تسير حياتي مساقا بتيار نهر الحياة بدون ان اؤثر فيه وبدون اي رغبة مني؟
فانني لم اخلق لكي اتكاثر واضع صفاتي الشخصية في ابنائي فقط ولكني خلقت لكي اضع لبنة من لبنات بناء الصرح الانساني العظيم. فوجب علي ان ابني نهضة او ان اشترك في بناء نهضة وان يوضع اسمي في سجل التاريخ مسبوقا بكلمة المهندس او الدكتور او الفنان او الرسام وقبل كل هذا وذاك دوري في الحياة وما قدمته من خدمات جليلة للامة والمجتمع. فالقناعة بمعناها المعكوس لدى الدول المتخلفة ماهي الا اضرام النار في العقول واشعارهم بانهم ليسوا اكثر من زوائد بشرية تضر اكثر مما تنفع ولايوجد لها اي فائدة اما القناعة الحقيقة لدى الدول المتقدمة تجدها امامهم وهم واقفين على اعتاب الكون يرفعون اعلامهم ويطأون باقدامهم الكواكب المجهولة قانعين بالعلم الذي رفعهم الى مصاف الالهة. وهم بذلك فهموا معنى حياة الانسان ومعنى وجوده ومعنى القناعة الحقيقة التي وجب على الانسان الحديث ان يفهمها ويعقلها. ولولا بقية من الرحمة لدى هذه الامم لاندثرت صور الانسان الذي لا زال يرى من وجوده سببا لبذر ذرية في الارض لاتجدي نفعا ويقنع نفسه بانه قد حقق المعادلة المطلوبة منه. فكم من انسان عاش ومات بدون علم منا؟ وكم من مجتمعات تسير في غياهب المجهول والنسيان؟ وكم من علم يولد لانعلم عنه شئ؟
فصورة طاغور وتوفيقة نكاد نراها في كل بيت وحارة وشارع وحانة. ولكننا لم نتوقف ابدا لكي نتوغل في اعماق هذه الصورة التي بهتت مع مرور الزمن وكادت ان تضمحل تماما مع تقدم العلم حولنا. فهل سنستيقظ يوما لنجد ان طاغور وتوفيقة قد ماتا ولم يتبقى منهما الا حطام تذروه الرياح؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية