شمشون ام دليلة


بالامس القريب كنت على شط البحر في احدى المصايف المطلة على البحر المتوسط. كان الجو ربيعيا معتدلا يحمل هواءه رائحة اليود القادمة من البحر. وكان برفقتي وقتها بعض الاصدقاء الذين جاؤوا من اقاصي البلدة ليقضوا وقتا ممتعا ينسيهم مآسي الحاضر وتبعاته. جلسنا غير بعيدين من شط الماء ، حتى ان بعض امواج البحر ظلت تداعب اقدامنا بين الحين والاخر محملة ببعض اعشاب البحر الخضراء. بعد ساعة من وصولنا ، اقترب بعض الاجانب من المكان الذي كنا نقعد فيه. ثم جلسوا قريبين منا. كانوا رجلين وامرأتين. وبدوا كانهم ازواج قد جاؤوا ليمتعوا ناظريهم وينعموا مثلنا ببعض الراحة. كانت ملامح وجوههم تقطع بان اعمارهم لن تقل عن الخمسين باي حال من الاحوال. في هذه السن يشعر الانسان حتما بدنو اجله وبان ما بقي من عمره لن يزيد عما فات مطلقا. لذلك تجده لا يفتأ يسعى في البحث عن جمال الحياة وياخذها اخذا كلما سنحت له الفرصة لذلك. لم نعبأ بهم كثيرا في بادئ الامر ولكن طبيعتنا تحتم علينا ان نختلس النظر كلما اراد عقلنا الواعي. ممكن بسبب اننا فضوليين لمعرفة تصرفات من يختلفون عنا جنسا ولغة وكأنهم قد جاؤوا من الفضاء البعيد. دائما نشعر بلمعات السعادة التي تطل احيانا من عيون القوم الساكسون وهذا ما قد يسبب في انطلاق مدافع الاسئلة في رؤوسنا محاولة الاجابة عن سبب راحة هؤلاء القوم. فتجدنا نحلل ونفسر ونعطش الجيم في بعض الاحيان لاستدراك معاني تصرفاتهم وحياتهم.
مر من الوقت ما مر الى ان بدات افواج الناس تزدحم على طول الشط. فمنهم الجالس تحت شمسيته ومنهم من يلاطم امواج البحر ومنهم من يلعب كرة المضرب. وفي هذه الاثناء اصدمت كرة من كرات المضرب التي كانت تروح وتجئ برأس احد الاجانب الجالسين بقربنا فاوجعته واطارت النظارة الشمسية التي كان يرتديها من على وجهه. فامسك الرجل الاجنبي براسه من الخلف مبديا ضيقا من قوة الاصدام. عندها وجدت احد اللاعبين والذي كان قد اطلق هذه القذيفة قد انبرى للاعتذار عما حدث وبانهم اسفين اشد الاسف ونادمين اقصى درجات الندم. حتى ان احدهم قد هم بمساعدتهم لرفع زاوية عصا الشمسية التي كان الاجانب يجلسون تحتها لكي تأخذ زاوية الشمس التي بدأت ترتفع الى كبد السماء. وبعد ان فرغوا من القاء كلمات الاعتذار والابتهال ذهبوا مبتعدين قليلا الى الخلف حتى لاتطيح كرة اخرى وتصدم به. وبالرغم من كل علامات التحذير المكتوبة على الشاطئ بعدم لعب كرة المضرب على الشاطئ الا ان تنفيذ هذا القانون قد ذهب ادراج الرياح، فالفوضي تعج في ارجاء المكان.
ولم تمر الا دقيقة حتى طاحت كرة اخرى لنفس الشخص حتى اصدمت بظهري وآلمتني من قوتها. فنظرت خلفي لاجد هذا الشخص يقترب حثيثا لكي ياخذ كرته ولم اجده مسرعا في الاعتذار كما فعل سابقا مع اهل الافرنج. فعاتبته وقلت له ان هذا الشط غير مصرح اللعب فيه بكرة المضرب. ولكنه لم يعيرني انتباه ولم ياخذ كلامي على محمل الجد ولكنه تحول الى شمشون الجبار وهو يرد علي بانهم سيلعبون (واللي عندي اعمله). لم اشأ ان تنقلب نزهتنا الى غم ، فغفرت له فعلته وكظمت غيظي لتسير الحياة
 لم افهم في البداية تصرفه العجيب. وكيف تحول من انسان رقيق يعتذر عما بدر منه الى همجي لايعتذر عن اخطائه. اهو الجنون ام ان الامر لايعدو عن كونه تصرف شاذ السلوك. فكيف يكون لك فعل في موقف معين ثم تغيره الى نقيضه بعدها بقليل. وعند النظر والتقصي والتحري في مكنونات النفس البشرية لم اجد الا اجابة واحدة قد تفسر هذا السلوك الشاذ الا وهي عامل القهر. فالقهر الذي يعانيه الشعب منذ ابد الابدين لم يولد الا شعب متحفز لتصرفات الاخرين فاذا كانت تلائم هواه فيرحب بها وان وجدها ضده اعترته غيبوبة الجهل ونقم على الحياة وما فيها. فهذا التحفز يجعلنا نخرج من البيت ونحن منتظرين المصائب التي قد تحل علينا ونحسب لها الحسبان. ويتم ترجمة شعور القهر الى صور عدة ، منها ردود الافعال الشاذة التي قد تراها في حياتك. ويصبح شعور القهر مع مرور الايام الى سلوك يظهر في المواقف العصيبة. فتجد انسان يتذلل في بعض المواقف وتجده يشخط ويزمجر وتكسوه علامات الغضب والشرور في حالات اخرى. والذي يحدد شكل الحالة التي يكون عليها هذا الانسان هو مدى الظرف الذي وضع فيه. فاذا كان الموقف الذي وقع فيه اعلى منه قوة تجد هذا الانسان يتصرف بكل هدوء ورهبة ويكاد يتفطر قلبه من فرط الخوف. اما اذا كان الموقف ادنى منه في القوة تجده يتعاظم وينتفخ وتتضخم اعضاءه التناسلية ويصبح مثل الثور الهائج. فاذا اوقعتك الظروف في مواجهة مثل هذه النوعية من البشر، فتجده ياخذ برهة في تقدير حجم تصرفك، فاذا وجد تصرفك فيه نوع من الليونة تجده يترجمه سريعا الى ضعف ويتحول الى شمشون ، اما اذا وجدك ترد بقوة غير آبه له او للموقف تجده يتصاغر وينكمش ويتحول الى دليلة.
 فهذا التناقض العجيب داخل نفوس هذا الشعب لايمكن ان تنمو فيه بذرة الحق والعدل والصواب. لان الذي يحكمه هو عاطفته وليس عقله وضعفه وليس قوته وسقمه وليس عافيته.


تعليقات

  1. تشعرني جملة (انتخ و تضخمت أعضاؤه التناسلية) بأن الانتصاب مرض عضال

    ردحذف
  2. هههههه، ليس مرض عضال ولكنه تشبيه مجازي لحالة الاندفاع والثورة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية