هناك دائما ضحية
ذهب ماركوس كعادته كل يوم الى الحانة القريبة من البيت لكي يشرب كاس الجعة المفضل لديه، فقد كانت الحانة تقدم نوع من انواع البيرة الاسكتلندية التي يميل لونها الى البني الداكن وكانت تاثيرها عليه يمتد الى فلق الصباح بمجرد ان يشرب منها كاسين. يجلس على طاولة قد خصصت له بمرور الايام في ركن في اخر الحانة وقد اعتاد عليه النادل الى الدرجة التي جعلته يقدم له المشروب في لحظة رؤيته اياه. يشعل سيجارته الاولى والتي لاتلبث بعد مرور الساعة الاولى الى ان تمتلئ مطفئة السجائر امامه فيحين موعد تغيرها باخرى نظيفة. يشرد ماركوس في كاسه الثالثة كالعادة ويتوه في خيالات الماضي القريب عله يجد سببا لما يعانيه او امرا قد يكون اخطأ في تقديره. ولكنه عبثا لايجد ويقول لنفسه وكيف بالمرء ان يصحح اخطاءه وهو لايدري ساعتها انه خطأ. فانه من المحال تقريبا ان تقدر حجم فعلتك فتؤخذ عليك والا ما فعلتها. ويصبح الندم نديم سوء في ايام لا تمر كما كانت. لايكترث ماركوس كثيرا لموسيقى ضوء القمر لبيتهوفن التي تنطلق من الجرامافون الموضوع خلف الساقي. تمر عليه احيانا لحظات تدمع فيها عينيه وهو لايجد من يمحي من عقله وقلبه الذكريات ويقول في نفسه لم اكن مخطئا ولكنه عذاب الوجد والحيرة.الى متى يا الهي. الم ادعوك ان ترفع عني همي وحزني. الم اشركك في احزاني وغمي. يسال نفسه ويكرر السؤال تلو الاخر حتى ينهكه التعب ويخر باكيا. وتتساقط دمعات عينيه على الطاولة امامه. يشعر احيانا انه لاشئ. ويتلاشى من الوجود كانه لم يصبح موجود. ويهيم في الخيال لكي يسقط في المحال. محال الحياة التي لم يشعر بها او تشعر هي به كانه لم يخلق من قبل وانه عابر سبيل ليس بينه وبين الدنيا صلة من قريب او من بعيد. يقف ماركوس على قدميه يترنح من شدة السكر والحزن ثم يدفع الحساب ويخرج من الباب. يعدل من هندامه قليلا ثم يسير على الرصيف الى ان يصل الى مفترق الطريق المؤدي الى منزله. ولكنه في هذا اليوم لم يذهب الى المنزل ولم يعد لديه الرغبة في ذلك. فقد كان الحزن يضرب جنبات نفسه ولا يترك منها غير اجزاء مبعثرة في سكون الحياة. اتجه صوب النهر ثم عبر الجسر بين الضفتين الى ان وقف مستندا على جذع شجرة الصفصاف. بدأت زقزقة العصافير معلنة ميلاد يوم جديد من معاناته مع الحياة وهو لايدري كيف يمرر يومه بدون شقاء او حيرة. سار بعيدا عن الشجرة وبدا في البحث عن اقرب كرسي يريح عليه جسده المثقل بالهموم. جلس على كرسي لم يكن عليه اي من براز الطيور. وقد بدات الشمس تقترب من الافق صاعدة. ثم اغمض عينيه قليلا ولم يشعر بجسده يميل الى ان استلقى تماما على الكرسي. لم يستطع النوم ان يطرق عقله برغم انه اغمض عينيه محاولا ذلك ولكن القلق لايدفع الانسان ابدا الى النوم. الهي لماذا تركتني هكذا؟ هل انت موجود ام ان الحياة وجدت من غير موجود؟ الى متى لا ترد علي؟ ظل يردد هذه الكلمات بينه وبين نفسه وهو لايعي بما يدور حواليه. فانتبه الى صوت حسيس الاشجار وكانها تكلمه . ففتح عينيه قليلا وهو لايقوى على رفع جسده. فاطرق بصره على الشجرة امامه ولم يجد اي احد .فهم بغلق عينيه ثانية ولكنه قبل ان يفعل سمع صوتا اخر لكنه لم يستطيع تمييزه او تحديد ماذا يقول هذا الصوت. فارتاب ان شيطانا يمكن ان يقلق راحته او يعبث بما بقى من وعيه. الى ان خيل اليه ان خيالا يقترب منه فذعر واستيقظ واستعاد كل حواسه في طرفة عين. وبدأ هذا الخيال يقترب اكثر فاكثر الى ان وصل الى قرب قدميه تماما وهو يتراجع ملتصقا بظهر الكرسي الجالس عليه من فرط الخوف. مد الخيال يده اليه وهو لايدري من هذا. شعر بلسعة خفيفة من البرد على يديه فهم بابعادها خوفا من هذا الخيال ولكن الخيال لم يعبأ بردة فعله وظل يومئ براسه مشيرا اليه بان يقوم معه. لم يدرك ما يجب فعله حينها ولكنه تذكر بعض ترانيم من الكتاب المقدس قيلت له من قبل بانها تصرف الشياطين . فظل يرددها بينه وبين نفسه ولكن هذا الخيال لم ينصرف. فاستجمع كل قواه وهم بالوقوف في وجه الخيال فاذا به يرتفع عن الارض بدون ان تلامس الارض قدميه. الهي ما هذا؟ كيف اطير ؟ قالها بينه وبين نفسه وايقن ان ما يحدث له هو حلم . وكيف يحدث هذا في الحقيقة. اكيد انني احلم. وجد نفسه يسير بدون اي رغبة منه ولكن هذا الخيال ظل مسيطرا عليه واخذه معه الى مكان لايدري هو الى اين. ظل ينظر يمينا ويسارا عله يجد منقذ او يجد على الطريق هدى ولكنه لم يكن من جنس مخلوق حواليه. اسلم نفسه الى الخيال ولم يعد يدرك ماذا يريد منه او الى اين يذهب. سار مع الخيال الى ان وصل الى النهر ثانية ولكنهما لم يعبراه.فسارا على طول النهر الى ان وصلوا الى مصب الاحزان. هكذا كان يطلق عليه اهل هذه البلدة. فوقف الخيال به الى ان علا فوق شلال صغير لايتجاوز ارتفاعه المتران .فنظر ماركوس اسفل قدميه وهو يظن بان الخيال سيقذف به من اعلى النهر. لم يكن يخشى الموت حينها لان الارتفاع ليس كبيرا الى الدرجة التي يمكن ان يموت بسببها . ولانه لم يعد يجد لديه الرغبة في الحياة باي حال من الاحوال. فاذا عاش فستظل الماساة باقية واذا مات فهذا اهون. ولكن الخيال لم يقذفه وظل على هذا الوضع برهة ثم دار به فاصبح وجه ماركوس الى الجزء الصاعد من النهر ثم دار به دورة ثانية فاصبح وجه ماركوس الى الجزء الهابط من النهر . عندها سار به الخيال الى ان وصل الى ضفة النهر ثم القاه على الارض وتركه وحيدا وطار بعيدا. ماذا الذي يحدث ؟ لماذا فعل معي هذا الخيال ما فعل؟ ولماذا تركني بدون ان يقول لي ماذا اراد من فعلته هذه؟ فقام من مقامه تسنده بعض الارادة التي بقيت لديه واتجه صوب منزله مسرعا قبل ان يظهر له خياله مجددا.
وصل المنزل سريعا وتوجه الى دورة المياه حتى يرش على وجهه قليلا من الماء ثم خرج الى غرفته والقى بجسده المنهك على سريره ونظر الى سقف الغرفة . فسرح ونام من كثرة الاعياء.
وفي فورة نومه جاءه خياله مجددا متحدثا له باعلى صوت، "الم تعي ماذا اردت بهذا مثلا؟" تراجع ماركوس مرتعبا ولم ينطق ببنت شفه. عندها بدأ الخيال يقول له " ان النهر هو انت والماء هو الحياة. فهل رايت يوما نهرا بدون ماء؟ ولم ينتظر الخيال الاجابة واكمل حديثه ، ان النهر هو انت والماء هو الحياة التي تحياها بكل مافيها واختلاف الارتفاع هو الصعوبة التي تجدها في حياتك. فهل رايت حياة بدون صعوبات او مشاكل؟ ولا تلوم نفسك على مافعلت يوما ابدا فانك ستواجه بكثير من المعاناة طالما ظل بداخلك نفس يخرج ويدخل فهون عليك. فكل مافي الوجود يحمل كل اشكال المعاناة. فبدون المعاناة فلن تشعر بمعنى السعادة. وبدون الالم لن تشعر بمعنى الراحة. وبدون الحزن فلن تشعر بمعنى الفرح. فكل مافيه انت ماهو الا جزء بسيط من المعاناة الانسانية بكل مافيها. انت جزء من الفرح والسعادة والشقاء . فلا تحاول ان تاخذ اكثر من حقك من هذه وتلك. فاقتصد من السعادة لشقاءك واقتصد من الفرح لحزنك ولا تزيد او تنقص واستكمل حقك من كل شئ حتى تستوفي ما انت مخلوق له. وما الماء الا استمرار الحياة سواء رضيت او ابيت فارضى بما هو كائن وبما يكون. لعل ما انت فيه هو اختبار ليعينك على الفيضان القادم. فالماء في النهر قد يقل يوما وقد يفيض اياما . فاشدد من عزيمتك لعل نقص الماء الذي تعاني منه يقويك لتتحمل ماء الفيضان. واصبر ولا تستعجل فيضان الماء فان له وقت معلوم لن يتقدم ساعة ولن يتاخر. ولا تجعل من نفسك ضحية ، فتكون من اصحاب الشقاء.
تمت
تعليقات
إرسال تعليق