العودة الى المربع صفر


فوق ربوة المقطم وقبل الساعة السادسة مساءا بقليل القى بسيجارته بعيدا وظل يشاهدها وهي تسقط الى اسفل حتى اختفت تماما اسفل المنحدر وعاد ادراجه الى الوراء واختفى.
يقبع سامح الان في ركن حجرته وحيدا ، ينظر يمنة ويسرى عله يجد ما يشده خارج حدود تفكيره الذي بات لايفارقه هذه الايام. بات النوم عزيزا عليه من كثرة السهد والم الضعف وقلة الحيلة. لم يعد يقوى على المضي قدما في البحث عن عمل جديد. يتوهم احيانا انه سيستيقظ باكرا لكي يبدا دورة حياة جديدة ولكنه يفيق على وهم الحقيقة التي باتت تلازمه وهو انه لم يعد كما كان ولم تعد لديه القوة على الفعل ، مجرد الفعل. فقد كان في الماضي لايضاهيه بشر في السعي وخفة الحركة. ولا يألو جهدا في خوض غمار معارك الحياة التي كانت تعاركه وتنازله بين الحين والاخر. هل العمر بدأ يفعل فعلته القذرة في قدراته؟ ام ان الندم قد تعاظم لديه بعد ان كان لايعرفه ولايهمه معرفته. في الماضي لم يكن يحسب حساب خطواته وهو المغامر الفذ الذي ركب الصعاب وفاز بالملذات دائما. ولكنه اليوم في موضع الجريح الذي يتألم بعد ان نزلت عليه ضربة من ضربات الغدر. ولكنها كانت ضربة مؤثرة مجهدة على السواء. لانه لم يكن يتوقعها او يتوقع مداها في نفسه. ولكنها في نفس الوقت قد علمته بان العمر اصبح قصير لديه وليس لديه الوقت الكافي لفعل مافعله سابقا. فالوقت يمر احيانا بدون حساب ولا ننظر اليه حتى ولكنه عند امتداد العمر يصبح الوقت مهما جدا. يمكن بسبب شعورنا باننا قد قاربنا على استهلاك ساعتنا وقد يحين الوقت لفراغ مخزونها. الانسان ، هو الحكمة الوحيدة الباقية الى ابد الابدين برغم انفه.
كل ركن في الحجرة يذكره بماضيه. على الحائط امامه لوحة كان قد اشتراها من محل لبيع التحف والهدايا. لوحة من جلد الماعز مكتوب عليها لا اله الا الله. واخرى عبارة عن جدارية منحوت فيها رسم لجاجوار يعلوه صقر امريكي. كل هذه التحف تذكره بالماضي وبعنفوان شبابه. انه التاريخ ، تاريخ الفرد الذي يتركه في الدنيا لورثته بدون ان يشعر بان مايشتريه سيؤول لغيره في النهاية. ينتهي الانسان وتبقى افعاله.
قصص نجاحه كثيرة تلازمها قصص فشله بالتبعية. لم يعد يحتمل النظر الى الوراء والبحث عما اقترفت يداه وسبب له كل هذا الشقاء. قام من مكانه يتجول في الحجرة واشعل اخر سيجارة في علبته وهو يتململ بسبب عدم انتباهه لشراء علبة سجائر جديدة. فقد كانت السيجارة بالنسبة له هي المتنفس الذي يفرغ فيه همومه. فكيف سيجد الان مكان يشتري منه سجائر في هذا الوقت المتاخر.
فتح كتابا على المكتب ثم القاه ثانية. ذهب الى الشرفة ثم دخل مسرعا. ظل يروح ويجئ على غير هدى حتى اعياه الملل. فانقض على السرير محاولا النوم ولكن بغير شغف. فالنوم اصبح له حالة مرضية لابد منها. لا اشتياق لها او سؤال عنها. فنهاره اصبح طويلا وليله ايضا. ولكنه انهار في النهاية ونام.
في ظهيرة اليوم التالي ، قام من نومه متثاقلا الى روتينه . فقلما يدرك الجريح ابعاد محيطه بسبب المه الذي يعيقه عن التمييز. ولكنه اعتاد هذا الامر وسار الى حمامه ثم اخذ دشا على غير عادته وحلق ذقنه ثم لبس ملابسه وتاكد من وجود اموال داخل بنطلونه. ثم فتح الباب ونزل مسرعا لكي يشتري سجائر. عاد بعدها الى البيت ولم يذهب الى الكافيتريا التي كان معتادا ان يجلس عليها في مثل هذا الوقت. يجوز بسبب عدم توفر المال اللازم لديه او يمكن بسبب الشجار الذي وقع مؤخرا بينه وبين عامل البوفيه. المهم انه اتجه الى المنزل مباشرة ولم ينسى شراء الجريدة قبل صعوده. دخل غرفته مباشرة بعد ان طلب من امه ان تعد له كوب من الشاي الثقيل على غير العادة. لم تلتفت له امه لانها اعتادته متغير الطباع مؤخرا ولم تعد تساله بعد ان نهرها غير مرة في الايام الاخيرة. جلس على السرير لكي يتصفح عناوين الاخبار. نظر اليها سريعا ثم بدأ في البحث عن وظيفة قد تكون ضلت طريقها لكي تاتيه من خلال الورق. وقعت عيناه على وظيفة في احدى الشركات تناسب مؤهلاته. فقام وفتح الكمبيوتر وبدأ في ارسال السيرة الذاتية ومرفق به صورة من شهاداته العلمية. ثم ضغط على زر الارسال واقفل الجهاز. وبدأت رحلة الانتظار الذي طال. فكم من بريد ارسله وكم من وظيفة حلم بها ولكن القدر ياتي بالنكبات مثلما ياتي بالسرور. فالعدل واحد ولكن القسمة قد تميل احيانا.
في صباح اليوم التالي جاء الرد على رسالته. لم يكن متوقعا ابدا السرعة التي جاءت بها الرسالة تخطره بميعاد المقابلة التي على اساسها سيتم تعينه من عدمه. لم يصدق في بادئ الامر ولكنه تدارك الموقف وانتبه لما يمكن ان يسببه له الامل. فكم من مرة اضاء مصباحه ثم انطفأ سريعا. ذهب الى درج مكتبه يلملم اوراقه المتناثرة هنا وهناك ثم رتبها ووضعها في ملف. ولم ينسى ان يكوي بدلته التي اشتكت من الافول.
جلس على الكرسي كما امره مدير الشركة وبدأت معركة الاسئلة . سؤال من هنا وسؤال من هناك. شرد قليلا اثناء مكالمة تليفون جاءت للمدير وبرقت في راسه نفس الفكرة التي طالما راودته اثناء المقابلات. لماذا كل اسئلة المديرين تافهة؟ هل هي قاعدة ام ان فيها ما لا افهمه؟ ولكن عقله اراحه من عناء التفكير فيها وقال له لا تجهد نفسك فكل المديرين لا يفهمون. هكذا بكل بساطة.
التفت اليه المدير ثانية واستكمل النقاش بينهم. ثم في النهاية استحسن ردوده واجاباته ووعده خيرا. فقام من مكانه مفسحا الطريق لجريح اخر.
عاد مسرعا الى البيت ملبيا نداء الملل. اكل سريعا ما كان معدا ثم دخل الى غرفته واغلق الباب ممنيا نفسه بان يكون العمل من نصيبه. وقبل ان يكمل امنيته رن الهاتف المحمول وكان المدير الذي قابله هو المتحدث معلنا له قبوله في الشركة ولكن العقد سيكون لمدة عام واحد. لم يفكر كثيرا وقبل بالمهمة. فقلما يكون خالي الوفاض لديه اختيار. فمن العبث تصور ان الانسان عندما يكون مكبل اليدين يستطيع ان يسبح فما بالك بالمكبل يدين وقدمين.اغلق الهاتف وظل يحدق في السقف وهو يقول لنفسه عام افضل من لاشئ.
انتبه لصوت طرق والدته على الباب فقام وفتح لها. سالته ما به ولماذا هو حزين هذه الايام ولم يعد كما سابق عهده. فحكي لها ماحدث معه بالتفصيل وعندما فرغ من حديثه قالت له امه، ان الحياة هكذا فاذا لم تستشعر الم السقوط لم تستشعر بهجة الصعود. فاذا كانت الحياة نجاح على طول لظل ادم وحواء في الجنة ولم يخرجوا منها ولم يشقى الانسان ابدا. فالحكمة تكمن في قيام الانسان بعد سقوطه ولكن الاهم هو عدم الارتكان الى السقوط، فالفشل الحق هو البقاء في الفشل بمعنى عدم المحاولة من جديد. والنجاح الحق ليس عدم تجنب الفشل ولكنه السعي لامتلاك اسباب علاج الفشل. فهل يستطيع الانسان ان يصعد الجبل بدون ادوات؟ وما الادوات الا وسائل النجاح . فتعلم كيف تستكثر ادواتك تحسبا لسقوطك. وليس كل فشل هو فشل بحد ذاته فلربما هو تجربة نمر بها لنجاحنا الاكبر. وكن على يقين بقوة ارادتك فانها اليدين التي تستخدمها لتحريك ادواتك وبدونها لن تقوم لك قائمة. وما الحياة الا العودة الى المربع صفر وليس الصعود الى المربع مائة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية