الرجوع

منذ اكثر من الف عام ، مات ابو الحسن الدمياني في قرية صغيرة على حدود البصرة في جنوب العراق. لم يكن له غير زوجة وثلاثة اولاد. دفنوه في قبره ثم عادوا ادراجهم الى منزلهم يجرون الام الحزن والاسى. وينعون ايامهم القادمة والتي لم يكن معهم لها من زاد او عون. فلم يترك لهم ابو الحسن غير منزل صغير يأويهم ودكان بسيط يبيع فيه الدقيق والزيت.
تمر الايام والسنين وتندثر عائلة ابو الحسن وتنمحي من سجل التاريخ كما انمحت امم من قبلهم. وانقطع لهم اي نسل ولم يكن لهم اي عاقبة او ذكر.
وفي هذا الزمان واثناء سكون الليل في احد المقابر في البصرة بدأت الارض تهتز وترتعد من رجة خفيفة وانبثق نور طال الافق. ولم يكن احد موجود حتى يرى المعجزة التي تخرج من طيات الزمن المنسي. خرج ابو الحسن من قبره عاريا كيوم ولدته امه. وقف مذعورا لايعرف ماذا جرى، ولم يكن يدري اين هو. فقد كان الظلام الدامس مخيم على المكان ولم يكن القمر الا هلال صغير لايشع اي نور. فانتبه ابو الحسن لصوت نقيق بعض الضفادع التي كانت تسكن بركة ماء بالقرب من المكان. وكان الجو بارد وهو كذلك في شهر نوفمبر. مكث ينظر حواليه لعله يهتدي الى اي نور يرشده على الحياة. فلفت نظره مصباح موضوع على مدخل المدفن وكانه يؤنس وحدة المقبورين. فسار اليه وهو يبحث عن رداء يستره ويداري به عورته. فوجد قطعة قماش صفراء من بقايا كفن احد الاموات فالتحفها وسار. وصل الى المصباح فارتكن الى جذع الشجرة الموضوع عليها المصباح وجلس يفكر فيما يحدث. فقال في نفسه انه يجب ان ينتظر الى الصباح حتى يستيقظ الناس ويسألهم ماذا يحدث. فهو لايستطيع ان يفسر ماذا حدث وكيف خرج من هذا القبر. أقام يوم القيامة وهو لا يشعر، وكيف هذا وهو يعلم ان يوم القيامة يجب ان يحشر الناس اجمعين وهو لايجد احدا ولا يرى ايضا اي نور من السماء. هل كان نائما؟ ولكن كيف ينام في قبر، هل دفنوه قومه حيا؟ ولكن كيف يدفنوه وهم يحبونه كما يحبهم. لم يستطع الاجابة على تساؤلاته وتعب عقله من التفكير فنام على جزع الشجرة وهو لايشعر.
استيقظ من غفوته بعد ان ايقظه ضوء الشمس وهي تخرج من على الافق.فصحى مذعورا مثل ليلته. ولكنه تدارك نفسه وبدأ في استعادة وعيه. فقام يبحث عمن يهديه الى سواء السبيل. فسار في اتجاه الطريق ثم انحنى مساره الى مدينة صغيرة قد شاهدها تبعد عنه مسافة قليلة. اقترب من المدينة ولكنها لم تكن مالوفة لديه ولم يرى هذه المباني من قبل ولايعرف كيف تم هذا ولا متى. وجد ولد صغير يسير قادما من المدينة في اتجاهه. فانتظر حتى اقترب منه الولد. ولكن الولد ما ان راه حتى صرخ مفزوعا من هيئته. فحاول تهدئة الصبي ولكن دون جدوى. فقد كان منظره مخيف وشكله مرعب. فسمع سكان المدينة صوت الصبي فخرجوا من منازلهم يستطلعون مصدر الصوت ويستنجدونه. فجاء القوم جميعا واقتربوا من ابو الحسن وقد هابهم شكله وخافوا منه. فسالوه من انت ومن اين اتيت. فرد عليهم انه كان يسكن في قرية قريبة من هنا ولكنها لم تعد موجودة. فكرروا عليه الاسئلة وهو لايعرف بماذا يجيب. ولكنه في النهاية حكى لهم القصة ولكنهم لم يصدقوه وادعوا عليه الخبل والجنون. وتركوه بعد ان اعطوه جلبابا وبعض الاكل. مشى في طريقه وهو مندهش من شكل الابنية والطرقات المعبدة والتي لم يراها من قبل. وذعر عندما مرت امامه سيارة لم يدرك كنهها الى ان وصل الى كشك صغير يبيع عصير العنب فركن بقربه لكي يسال صاحب الكشك ماذا حدث لبيته واهله وبلده. وما ان رآه صاحب الكشك حتى نهره لكي يبتعد عن مكان عمله ظنا منه انه مجنون. ولكن ابو الحسن تدارك الموقف وسأله اين بلدته الصغيرة. ولكن صاحب الكشك لم يرد عليه لتأكده من ان هذا الشخص مجنون فعلا. وكيف لا وهو يسأل عن اشياء لايعلم التاريخ حتى عنها اي شئ. ومرت مذ وفاته من القرون عشرة ومن الاجيال ثلاثون. فكل من على الارض الان لن يصدقه تماما كما جاءت مريم بإبنها تحمله ولم يصدقها قومها واتهموها بالفسوق حتى تكلم لهم الصبي.
بدأ ابو الحسن يفقد الامل في ان يجد جواب شافيا لما يحدث. فهو ذاته لايصدق انه خرج من القبر حيا، فهو يعلم انها معجزة وان عصر المعجزات انتهى بعد قدوم محمد (ص). اذا كيف يحدث مايحدث. استوقف رجلا طاعنا في السن بعد ان ابتعد عن الكشك وساله عن بلدته ، فنظر اليه الرجل باندهاش واستغراب ولم يرد عليه ولكنه اشار اليه ان يتبعه. فلم يتردد ابو الحسن في ان يتبع الرجل عله يهديه الى مايبحث عنه. سار الرجلان بالقرب من النهر حتى وصلوا الى دار صغيرة تتوسطها شجرة ضخمة من اشجار الخشب الاحمر عمرها يكاد يقترب من الفين عام. فانتبه ابو الحسن وهو يمر بجانب الشجرة وتذكر ان هذه الشجرة كانت موجودة في دار ابو اسماعيل البزاز.وتذكر ايضا انه عندما كان صغيرا نحت عليها اسمه. فجذب ابو الحسن الرجل المسن وتحدث اليه بقصة هذه الشجرة ولكن الرجل المسن لم يفطن لما يقول ولكنه استمر في السير الى ان دخل المنزل ليجهز بعض الطعام للضيف المجهول. جلس ابو الحسن بجانب الشجرة وهو لايدري ما يفعل او ماذا يقول. بعد فترة وجيزة ، احضر الرجل المسن طعاما وضعه بين يدين ابو الحسن. فانقض ابو الحسن على الطعام وهو يكاد يغمى عليه من شدة الجوع الذي هجم عليه بمجرد ان راى الطعام. احيانا لايشعر المرء بالجوع الا عندما يرى الطعام. بعد ان فرغ ابو الحسن من الاكل قام ليشكر الرجل المسن فوجده يجهز له فراشا لكي ينام عليه. فشكره ابو الحسن وبدأ في سرد الاسئلة عليه واحدا تلو الاخر. ولكن الرجل المسن لم ينطق كعادته ولكن قام بعد ان سمع كل كلام ابو الحسن واحضر مخطوطا كان بحوزته وفتحه وبدأ في تقليب اوراقه الى ان وقف على صفحة بها رسوم وكتابات. فنظر ابو الحسن داخلها ولفت نظره اسم بلدته فمد اصبعه واشار اليها ففهم الرجل المسن ما اراد ، ثم رد عليه بانها لم تعد موجودة فهي قرية صغيرة قد كانت موجودة منذ الف سنة تقريبا. فصعق ابو الحسن من رد الرجل ولم يدر ما يقول له. ولم يصدق في اول الامر ولكنه بعد الحديث والنقاش ادرك فعلا انه قد قام من مرقده وانه خرج الى الوجود بعد ان كان غير موجود. فقام بسرعة الى الشجرة لعله يتاكد مما يحدث. فطاف حول الشجرة يبحث عن النقش الذي كان قد تركه عليها ولكنه لم يجد شيئا. فقد كبرت الشجرة واستعظمت ولم يعد هناك اي اثر لتلك النقوش. فرجع الى الرجل المسن تعلوه مسحة ذهول. فكيف يصدق احد انه عاد من الموت. هذه معجزة ولن يصدق احد ما حدث له. نصحه الرجل العجوز ان ينام قليلا ويهدأ ثم بعدها ينظر في امره. بعد ان مرت بضع ساعات قام مرهقا ، فلم يكن نومه مريحا ولم يكن عقله ليتوقف عن التفكير في حياته القادمة. جلس في ركن الحجرة يتطلع الى السماء من نافذة صغيرة تعلو الحائط. فشعر بوقع خطوات الرجل العجوز تقترب من الحجرة فقام يستقبله. جلس الرجلين جنب الى جنب ودار بينهم الحديث التالي:
المسن: بني انك لن تفهم ما حدث لك ،فانها ارادة الله ولكن كل ما استطيع ان اقوله لك ان لاتذكر ما حدث فلن يصدقك القوم مهما حاولت. وعش حياتك الجديدة بنفس جديدة واسم جديد ولكنك ستعاني في هذه البلد الجديدة عليك. فانك لاتملك اي هوية شخصية ولا سكن ولا مال ولن تستطيع التكيف في مجتمعك الجديد. فالبشر تغيروا ولم يصبحوا كما عايشتهم. لذلك انصحك بترك هذه البلد واللجوء الى بلد اخرى . عل الله يفتح عليك من جديد.
ابو الحسن: ولكن هنا ارضي وقومي وبني جلدتي. فكيف اترك كل هذا واذهب الى حال سبيلي.
المسن: انك تخدع نفسك، فلن تجد شيئا مما قلت ما زال موجودا. فكل الذي ذكرته اصبح في طي النسيان. والناس اصبحت مثل الانعام ولم تعد الطيبة موجودة في القلوب.
ابو الحسن: فكيف تنصحني بترك البلد وانت تقول بان الناس جميعا اصبحوا لايعوا من امرهم شيئا، فالذي ساجده هنا سوف الاقيه هناك.
المسن: انني انصحك لعلمي بان هذه البلد لم يعد فيها الخير والبركة ، لذلك اتركها لعل الله يفتح عليك في مكان اخر.
ابو الحسن: لولا انني اتوسم فيك الخير لامتنعت عن تنفيذ نصحك، ولكني اشعر بمثل ما تشعر به منذ لحظة مقابلتي للناس. فهم لم يعودوا كما كانوا فعلا. وحسبي ما وجدت منهم عندما طلبت منهم المساعدة غير الجحود والنكران.
المسن: الم اقل لك، فتوكل على الله فهو نعم المولى ونعم النصير.
ابو الحسن: سوف افعل ان شاء الله ، ولكنك لم تنصحني الى اي بلد اذهب؟
المسن: انني انصحك بالذهاب الى فلسطين، فالخير فيها الى قيام الساعة.
ابو الحسن: ولكن كيف اذهب الى هناك ولا يوجد معي اي نقود لشراء الزاد للرحلة.
المسن: اسمع يا بني، ان الامر لم يعد كما كان، فهناك الان مركبات تسير على اربع عجلات ،هذه السيارات تحملك الى اي مكان تريد.
ابو الحسن: نعم رايتها وانا في الطريق الى هنا، ولم اكن اعرف ما هذا.
المسن: نعم هذه، وسوف اذهب معك الى مكان تجمعها واعطيك بعض النقود التي سوف تعينك على الرحلة، ولكن لاتنسى ما نصحتك بك واجعل سرك في قلبك، فان افشاء الاسرار الان مهلكة لايقع فيها الا صاحبها. فالناس لم تعد تؤتمن على شئ ابدا.
ابو الحسن: سوف احفظ كل ما قلته لي.
المسن: سوف اتركك الان الى ان ياتي الصباح وغدا موعدنا ان شاء الله.
ابو الحسن: شكرا لك يا ابي العزيز.
طاف ابو الحسن في ارجاء المنزل يفكر ماذا تخبئ له الاقدار. خرج الى الباحة امام المنزل يتطلع الى عالمه الجديد وهو يشعر بالخوف من المجهول. فالمجهول يجعل قلب الانسان يخفق بشدة ويمنعه دائما من خوض المغامرة وركوب الصعاب . لم يمكث كثيرا في الخارج فهم بالدخول ثانية الى غرفته التي خصصها له الرجل العجوز. فقد كان هذا الرجل وحيد ايضا لذلك كان ابو الحسن اخذا راحته في الخروج والدخول. دخل الى غرفته ثم مدد على فراشه ونام ولم يشعر باي شئ من كثرة الاجهاد.
في صباح اليوم التالي وقف ابو الحسن والرجل العجوز خارج باب المنزل متأهبين للخروج الى مكان انتظار السيارات. ولم ينسى الرجل العجوز ان يعطي ابو الحسن ماسوف يحتاجه من مال وملبس. ثم تحركوا سويا مبتعدين عن المنزل. بعد فترة ليست كبيرة من السير وصلوا الى مكان انطلاق السيارات. سال الرجل المسن عن السيارات المتوجهة الى فلسطين. فاشار احدهم الى بعض السيارات المرصوصة خلف بعضها في نهاية الصف. فتقدم الرجل المسن وابو الحسن خلفه، فقد كان ابو الحسن خائف من ان يتحدث امام الناس ولكنه بعد فترة بدأ في التاقلم ومجاراة الحياة. ركب ابو الحسن السيارة بعد ان دفع الرجل المسن النقود الى السائق وطلب منه ان يهتم بأبو الحسن ، وافهم السائق انه غريب ولايعرف الكثير عن هذه البلد. أوما السائق براسه الى العجوز مبديا رغبته في المساعدة. اطمأن ابو الحسن لما يحدث وودع الرجل المسن متمنيا له الخير والبركة. فابتسم العجوز داعيا له بالتوفيق في رحلته. انطلقت السيارة مخلفة وراءها بعض الغبار وعلامات مستطيلة على الطريق. ثم دار العجوز راجعا الى داره بعد ان رمق الطريق بنظرة حزن وتعجب. في السيارة كان ابو الحسن واجما لايدري ما ينتظره في المجهول. مال براسه ناحية نافذة السيارة متاملا الطريق الطويل ومنظر الشمس وهي ترتفع الى السماء. بعد ساعتين من السير توقف السائق قليلا لكي يرتاح من عناء القيادة وطلب ممن كان في السيارة النزول للراحة قليلا على ان يعودوا الى السيارة بعد ربع ساعة. لم يدري ابو الحسن ماذا يفعل ولكن حدثته نفسه بان يفعل كما يفعل الجميع. فوجدهم يدخلون الى المقهى ثم يتوجهون الى باب كتب عليه دورة مياه. ففهم ابو الحسن ودخل وراءهم . وبعد ان قضى حاجته جلس الى اقرب كرسي ،فجاءه صبي يسأله ماذا يريد ان يشرب. فطلب ابو الحسن كوبا من اللبن . فذهب الصبي ثم عاد بكوب اللبن. بعد ان شربه دفع ابو الحسن حسابه ثم وجد القوم يتأهبون للخروج من المقهى. فخرج معهم وذهب الى السيارة وركب في مكانه. وانطلقت السيارة مجددا تشق الطريق الى حدود العراق الغربية مقتربة من الحدود السورية. بعد ثلاث ساعات اخرى وصلت السيارة الى الحدود السورية. وقبل بوابة العبور بمأئة متر وخلف طابور طويل من السيارات. وقفت السيارة التي بها ابو الحسن في انتظار دورها. فسأل ابو الحسن السائق لماذا توقفوا؟ فرد السائق بانها بوابة الحدود والتفتيش. لم يفهم ابو الحسن لماذا توجد بوابة تفتيش. فلم يكن لها وجود في زمانه. فكل انسان كان حرا في التنقل والسفر وقتما يشاء بدون عائق يمنعه. لم يهتم ابو الحسن لما يحدث فلم يكن معه شئ على كل حال. بدأت السيارة في التحرك مترا بعد اخر الى ان وصلت الى البوابة. اوقفها رجل الامن وبدأ في طلب بطاقات الهوية وجوازات المرور. لم يفهم ابو الحسن المطلوب منه. اخرج بقية الركاب بعض الاوراق والجوازات ففحصها رجل الامن ثم اقترب منه يكرر نفس الطلب. فرد عليه ابو الحسن بانه لايملك ما اراد .فانزله رجل الامن من السيارة واخذه الى حجرة ضابط الامن .هناك بدأ ضابط الامن في سؤاله عن اوراقه ولكنه لم يفهم ما المطلوب فهو لم يكن لديه اي اوراق ثبوتية في يوم من الايام.
فنظر اليه الضابط نظرة المتوجس وسأله: الى اين كنت متوجها؟
ابو الحسن: الى فلسطين.
الضابط: وكيف تذهب الى هناك ولا يوجد لديك اي اوراق هوية؟
ابو الحسن: لم اعرف ان هناك اوراق يجب استخراجها لكي اذهب هناك، فانها ارض الله جميعا.
الضابط: ارض الله! انها لم تعد ارض الله ولكنها اصبحت ارض سوريا.
ابو الحسن: ومن ملكها؟
الضابط: هل تهزأ بي؟ يبدو عليك الخبل والجنون. لن تستطيع ان تغادر العراق طالما ليس لديك جواز مرور او اوراق هوية.
ابو الحسن: ومن اين احضر هذه الاوراق؟
الضابط: لايوجد لدي الوقت الكافي للرد عليك.
فنادى الضابط على رجل الامن بالخارج يأمره بان ياخذ ابو الحسن الى سيارة الترحيلات ليعيده الى المكان الذي جاء منه.
لم يفهم ابو الحسن ماذا يحدث ولكنه ادرك بان الامر لم يعد كما كان وان الدنيا تغيرت الى الاسوأ. فكيف يمتلك الانسان ارضا ليست له ويمنع اخرين من دخولها. الا يعلم هذا الانسان بان الارض ومن عليها ملكا لله؟ مال ابو الحسن براسه على الكرسي في سيارة الترحيلات وهي تعيده من حيث اتى متعجبا من امر الدنيا وما آلت اليه متمنيا ان يعود كما كان في قبره حتى لايموت كمدا وغما.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هدهد سليمان ( قراءة جديدة )

القاضي والمجرم ( قصة قصيرة )

أسماء قداح الجاهلية